من يوميات الثورة السودانية.. (26 فبراير 2019) البراري: تاتشرات «أدبة» المدينة
عبد الله علي ابراهيم
لو كان من حي في العاصمة، التي جئتها من عطبرة الداخلة الجديدة عام 1960، انتمى إليه وجداناً فهو حي بري. سكنت في غيره لسنوات. فيها السكنى المعلنة وفيها الخفية التي اضطرني إليها عملي ضمن كادر الحزب الشيوعي المتفرغ في النصف الأول من السبعينات. وسكنت بري “أوجرياً” بلغة أهله، أي دافع إيجار لا في العير ولا النفير. أجرت في 1968 داراً لنعمة حريز أجمل بنات جيلها في بري قاطبة. وزرتها مريضة في مدينة العين وكان وجهها الندي وحده الذي ينازل الداء ويناكفه. رحمها الله. ثم عدت أوجرياً لبري المحس في 1978 لدار لكمالا عثمان اسحق التشكيلية المعروفة. ونعمت بصحبة مرموقة من آل حريز وآل إسحاق وآل بشري عند دكان سراج وفي الجخنون.
ولمحبتي لبري انقبضت نفسي لما تعرض له الحي في يوم 26 فبراير على يد قوات الطوارئ. فاجتاحته قوة غاشمة منها قوامها بين 1200 إلى 1400 فرد من الشرطة، وقوات الدعم السريع على 132 عربة تاتشر بلوحات وغير لوحات. وجاء في اللوحات الرموز ق د س (قوات الدعم السريع)، و ج ا و: ه ع (جهاز المخابرات هيئة العمليات)، و17 بوكس من الأمن السياسي، و4 دفار شرطة، وسيارة لإطلاق قنابل الغاز، ومجنزرة لودر لاقتحام المتاريس، وركب مصوران على بوكس تويوتا هايلوكس لغرض التقاط صور للمتظاهرين. وتراصت التاتشرات من عند بداية صالة برستيج ببري المعرض الى السفارة العراقية ليطلق أفراد الأمن منها الغاز المسيل للدموع نحو المنازل لمدة 10 دقائق بطريقة عشوائية وكذلك القنابل الصوتية. وبعد 7 دقائق تم اقتحام بري الدرايسة وبري اللاماب وبري المحس بواسطة 27 عربة تاتشر بيضاء. ونزل أفراد القوة يكسرون زجاج ما صادفهم من سيارات الناس. ومزقوا لساتك بعضها بالسكاكين. وقاموا باعتقال من صادفهم وضربه واقتحام المنازل. وتعرض المارون بشارع المعرض لإيقاف عشوائي وتفتيش عن الهوية وضرب بالعصي. وجرى تجنيب كل عربة مظللة والتحري مع ركابها. ودخل الأمن في استفزاز ممنهج مع رواد سوق 4 وركاب الباصات عند المحطة.
وهذا العدوان المبين على بري هو ما اسماه أستاذنا عبد الخالق محجوب “عنف البادية” على المدينة في سياق الحملة لحل حزبه في 1965. وكان رأس السهم فيها جماعة الأنصار استدعتها قيادتها من الريف لإرهاب الحزب باقتحام دوره وترويع أعضائه. وشاعت الفكاهة أن الأنصار كانوا يسألون من مروا به عن موضع “حلة الشيوعيين” في المدينة لقضاء وطر منها. ولم يسعد مصطلح عبد الخالق الكثيرين لأنهم لم يروا اختصاص البادية بالعنف دون المدينة. ولكنني استبعد أن يكون قصد ذلك التمييز بل كان ما استنكره فعلاً هو عنف المدينة التي “تستأجر” قوى من الريف، مظلومة في حد ذاتها، لترويع خصوم مشروعها السياسي.
ما تزال المدينة عندنا هوية لا تعترف بها دوائر التقليديين والمحافظين. وما يزال الحكم عليها في الغالب مما نرجع فيه لشروط القرى والبادية المعتقد أنها “مستودع أصالتنا الثقافية”. فالطلاقة في المدينة في نظر هذه الدوائر مجرد “انطلاقة”. ولم أجد من عبر عن هذه الريبة في المدينة والحداثة مثل الطيب مصطفي في تعليق له عن واقعة شباب توك المعروفة ب”واقعة وئام”. فالثقافة والوسائط الحديثة وتوظيف النساء في نظره رفعت كلها من صوت النساء قياساً بأمهاتهن اللائي قدسن الحياة الزوجية (بطريقته بالطبع)، بل وفُتن في هذا الرجال المتصندقين في ذكورتهم. ووجد الدكتور محمد محمود، من جهة أخرى، هذه الريب غلبت حتى في تعليق للسيد الأمام الصادق عن نفس الموضوع برغم رشاقته الحداثية.
ليست هذه المرة الأولى ل”مدن السودان تنتفض” لأجل أن تكون هويتها حقيقة سودانية مثل حقائقه الأخرى. كان هذا أرق المدينة في أكتوبر 1964 وفي أبريل 1985:
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسير
من غيرنا لصناعة الدنيا وتركيب الحياة القادمة
وكانت بري يوم 26 فبراير على مرمي تاتشرات خرجت بعدها وعتادها ل “أدبة المدينة” التي خرجت منتفضة لصناعة القيم الجديدة والسير.
وبري مدينة كانت في خدمة المشروع الحداثي في بدئه وما تزال. ونواص في “البراري: استباحة كاستباحة كتشنر لأم درمان”.
(من احتفظ بصور من ذلك اليوم فليعمل تاق لغرض التوثيق).
المصدر: صحيفة التغيير