اخبار المغرب

كاشف فضائح “العم سام” سيمور هيرش يواصل تعرية “سوءات أمريكا”

بلغ من العمر عتيا، لكنه ما يزال وفيا لأسلوبه الخاص في الصحافة الاستقصائية الذي يركز فيه على كشف ما جلبته له مصادره عما كان يدور في دهاليز السياسة الأمريكية الخارجية دون ذكر اسمها. في جل مقالاته ومقابلاته، أدان الحكومات الأمريكية المتعاقبة واعتبرها متورطة في نشر الفوضى والخراب وطبخ الانقلابات في كل مكان يأبى أربابه خدمة مصالحها. وخلال مقابلة له على “سكاي نيوز عربية” في برنامج “مع جيزيل”، أكَّد سيمور هيرش أن الرئيس الأمريكي جو بايدن هو من أعطى أوامره الخاصة لتفجير خط السيل الشمالي الذي ينقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا، وتشبث بما سبق له كشفه من فظاعات لم يَخْلُ منها أي عقد من الزمان منذ الحرب العالمية الثانية.

استهل هيرش مسيرته الاستقصائية في كشف مجازر الولايات المتحدة في فيتنام. إذ كان له الفضل في تعريف الرأي العام الأمريكي والعالمي بمجزرة “ماي لاي” التي اقترفها جنود أمريكيون عام 1969 في حق نحو 500 من النساء والأطفال والرجال العُزَّل بشكل عشوائي في إحدى قرى فيتنام. وفي العقد الذي تلا ستينيات القرن الماضي، تفاعل هيرش في كشف تفاصيل فضيحة “ووتر غيت” التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون، ثم سلط الضوء على قصف القوات الجوية الأمريكية كمبوديا وإلقائها أكثر من 100 ألف طن من القنابل على مدار 14 شهراً. كما كشف استعانة الإدارة الأميركية ببرامج تجسس وكالة الاستخبارات المركزية في التخطيط لانقلابات عدة مثل انقلاب الشيلي الذي جندت له أحزاباً وجمعيات ووسائل إعلامية ومولتها لقلب حكومة سلفادور أليندي الاشتراكية في 1973 والدفع بالدكتاتور أوغسطو بينوشي إلى السلطة ليقبع في الحكم كاتماً أنفاس الشيليين حتى 1990.

وفي القرن الحادي والعشرين، كشف هيرش فضيحة تعذيب الجيش الأمريكي للعراقيين المحتجزين في سجن أبو غريب في 2004. وما زلنا نستحضر تلك الصور المروعة التي عرَّت سوءة أمريكا التي احتلت العراق بذريعة كاذبة هي نزع أسلحته للدمار الشامل وتحريره من الاستبداد، فإذا بها تستبد برجاله وتذلهم بأساليب سادية لم تخطر حتى ببال غلاة مؤلفي قصص الرعب والتعذيب! ورغم ذلك، رفض جورج بوش الابن استقالة وزير دفاعه حينها دونالد رامسفيلد، في تنصل تام من تحمل أي مسؤولية، مادية كانت أو أخلاقية! ولم تكتف أميركا بوش الابن بفضيحتي كذبة أسلحة الدمار الشامل وسجن أبو غريب، بل أمعنت في تجاوزاتها وتدخلاتها في السياسة العراقية عبر دعمها أسماء معينة، مثلما حصل مع إياد العلاوي في انتخابات 2005.

وعقب حرب لبنان سنة 2006، كشف هيرش أن الولايات المتحدة هي التي أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لضرب حزب الله، وأنها كانت تبتغي تمهيد الطريق لضرب إيران بعد ذلك. وغير بعيد من سوريا، كتب هيرش الذي سبق له محاورة بشار الأسد وحسن نصر الله مقالات قال فيها إن جبهة النصرة هي التي شنت هجوماً بغاز السارين على الغوطة بمساعدة تركيا بغية توفير مبرر جاهز للولايات المتحدة لمهاجمة الأسد عسكرياً، باعتباره تجاوز الخط الأحمر الذي خطه له باراك أوباما حينها، وهو استخدام أسلحة محظورة ضد الشعب السوري! ومن حسن الحظ أن ذلك الخط الأحمر تحول إلى خط وهمي لم ينفذه أوباما قط.

وفي 2015، فاجأ هيرش الصحافة العالمية عندما قدم رواية مختلفة عن الغارة الأمريكية التي استهدفت قتل أسامة بن لادن في باكستان، واعتبر الرواية الحكومية الرسمية الأمريكية والباكستانية كذباً وافتراءً. إذ أشار هيرش إلى أن بن لادن كان مسجونا لدى السلطات الباكستانية منذ 2006 بعد القبض عليه من قبل الاستخبارات الباكستانية، وأن الاستخبارات المركزية الأمريكية أُبْلِغت بمكان حجزه عام 2010 وأن عملية دفنه في البحر مجرد كذبة، موضحاً أن جسد بن لادن تطاير إلى أشلاء خلال إطلاق النار المكثف عليه ولم يتم دفنه في البحر كما زعمت الحكومة الأمريكية حينها. وليس ذلك بمستغرب، فالإدارات الأمريكية تعودت على تعجيل أو تأجيل تصفية أعدائها الخارجيين، بما يحقق لها أكبر قدر من المآرب السياسية الداخلية أساساً، ثم الخارجية.

ومؤخراً، فجَّر سيمون هيرش مفاجأةً أخرى عبر كشفه وقوف الرئيس جو بايدن مباشرة وراء تفجير خط أنابيب السيل الشمالي 1 و2 الذي كان ينقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا، حيث أشار إلى تنفيذ هذا التخريب على يد الاستخبارات المركزية الأمريكية بتعاون مع النرويج، وذلك في مقال نشره في 8 فبراير 2023 بعنوان “كيف فجرت أميركا خط أنابيب السيل الشمالي”.

معظم القصص التي كشفها هيرش أكسبته جوائز عدة وشهرة في دوائر الصحافة والإعلام في كل دول العالم، لكنها جلبت له أيضاً عداوات وانتقادات وملامات كثيرة، بعضها ناتج عن التشكيك في صدقية قصصه، والبعض الآخر ناجم عن اعتبار قصصه غير موثوقة بسبب رفضه المستمر الكشف بالاسم عن مصادره.

ومن المفارقات المضحكة أن ردود فعل القادة الأمريكيين على قصص هيرش كانت دائماً متشابهة وأحياناً متطابقة، حيث يكون الرد الأول نافياً ومكذباً، وبعدها تصبح القصص محل التشكيك في وقائع معروفة للجميع وتكذيبها بعد ظهور تفاصيل إضافية عنها من مصادر صحافية أخرى أو جهات رسمية عند كشف السرية عن الوثائق بعد فترة زمنية ما. فعلى سبيل المثال، سارع الرئيس جورج بوش إلى إخبار نظيره الباكستاني الراحل برويز مشرف بأن سيمور هيرش كاذب بعد مقال نشره زعم فيه عزم البنتاغون تنفيذ عملية سرية ضد الترسانة النووية للجيش الباكستاني. وحينما نشر مؤخراً مقالاً قال فيه إن جو بايدن أعطى أوامر مباشرة بتفجير خط أنابيب السيل الشمالي، سارع بايدن لإخبار نظرائه الأوروبيين بأن سيمور هيرش كاذب!

ولعل الثابت في هذه الفضائح التي اقترفتها الإدارات الأمريكية هو ميل النخبة السياسية لرفض تحمل المسؤولية عنها جملة وتفصيلاً. ومثال ذلك سلسلة الانتقادات الشديدة التي وجهها عدد من المسؤولين الأمريكيين للرئيس الأسبق باراك أوباما بعدما قدم اعتذاراً للشعب الياباني عن قنبلتي هيروشيما وناكازاكي. وأكثر من هذا أن القضاء الأمريكي دأب على تكرار مسرحية محاكمة الجنود الذين يكشف الصحافيون أو المبلغون بجرائمهم تورطهم، فتصدر في حقهم أحكام، لكنها سرعان ما تتبخر عبر العفو أو التخفيف الأقرب إلى التبرئة، فيتحولون بعدها إلى أبطال قوميين، كما حدث مع متورطين في مجازر فيتنام وفضيحة أبو غريب، خصوصا في أعين الأمريكيين المتعصبين الذين يعتبرون بلدهم “مخلص العالم من الشر والأشرار” وجديراً بالحصانة الخارقة للزمان والمكان. وهم بذلك يستهينون بما نشرته أمريكا من مآس يعرفها القاصي والداني.

وهذا الكيل بمكاييل عدة وسم السياسة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. فقد كانت وسائل الإعلام القديم والجديد شاهدة على محاكمات طويلة وأحكام عدة نطق بها القضاء الأمريكي في حق أمريكيين اقترفوا أخطاء وجنحاً ضد أمريكيين آخرين، دون أن يطالها تقادُم ولو مر عليها خمسون عاماً. وكانت نتيجة عدد منها تحميل المتورط فيها مسؤوليته المادية والأخلاقية، ومنهم من فقد منصبه وشهرته وحتى ثروته، وقضي نهاية حياته وراء القضبان. أما عندما يتعلق الأمر بجرائم قتل وتعذيب واغتصاب وسرقة ثروات والاعتداء على حقوق أجيال تلو أخرى وتدمير الحرث والنسل في بلدان متفرقة بين مختلف قارات العالم، خصوصاً في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فحينها ترفض الدولة العميقة في أمريكا تحمل أي مسؤولية، حتى لو كانت مجرد تقديم اعتذار لضحايا يُقدَّر عددهم بالملايين، ولو أن ذلك لن يؤمنهم من خوف ولن يسمنهم ولن يغنيهم من جوع!

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *