دارفور: جدل المشافهة حول مفهوم الثورة والحركات المسلحة
دارفور: جدل المشافهة حول مفهوم الثورة والحركات المسلحة
محمد بدوي
في 12 مارس 2023 نشرت الأستاذة رشا عوض الكاتبة والصحفية رئيسة تحرير الإلكترونية مقالاً بعنوان “من الذي صنع حركات دارفور” وتلخصت فكرة المقال في “أن دارفور ظلت مسرحاً لصراعات السلطة البائسة باعتبار أن الحركات بعضها من صنع الترابي وأخرى من صنع الدكتور جون قرنق ديمبيور” في 13 مارس 2023م، والسياسي والباحث الدكتور محمد جلال هاشم بمقالة بعنوان “في دارفور توجد ثورة تحريرية عظمي، لكن لم تتبلور لها قيادة ملهمة” وتلخص المقال في “أن هنالك خلل منهجي صاحب مقال رشا تلخص في النظر إلى فشل النخب وإسقاطه على الواقع” في 14 مارس 2023 جاء تعقيبه على جلال تحت عنوان “كيف وجدت المتلازمة الأردولية طريقها إلى مقالة محمد جلال هاشم” وتلخص في “أن جلال لم يشرح ماهية الثورة التحريرية العظمى أن رده حمل فشلها في عدم إيجادها لقيادة ملهمة” 26 مارس حمل رداً من القائد عبد العزيز آدم الحلو رئيس إحدى فصيلي الحركة الشعبية/ قطاع الشمال بعنوان “من الذي حركات دارفور” تلخص في “الدعم من الحكومات المركزية لبعد الاستقلال للتمسك بالهوية العربية ثم مساندتها للمكون الرعوي الموالي للسلطة في مواجهة المكون الزراعي أشار إليهما بالعرب والزنوج تحت غطاء محاربة النهب المسلح ابتداءً من 1982 ثم سرد السجل التاريخي للحركات ودواعي نشأتها في الدفاع عن نفسها ومحاولة الحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة الراحل جون قرنق للنشاط في إقليم دارفور في 3 ابريل 2023 دلف إلى الساحة الدكتور عبد الرحمن الغالي القيادي بحزب الأمة القومي بمقال حمل عنوان “في التعقيب على الأستاذ عبد العزيز الحلو في رده على الأستاذة رشا عوض”. وتلخص في “دفعه بأن رشا لم تنكر عدالة قضايا الهامش، وتصويب لتاريخ مؤتمر فرولينا إلى انعقاده في 1966 وليس 1967 وأنه لا علاقة له بتعريب تشاد وأيضاً لا علاقة له بقصايا السودان ودفع بمساهمات الراحل الإمام الصادق المهدي في قضايا الحكم والسياسة والهوية إبان ممارسته للسلطة والعمل السياسي في السودان وانفصام عرى الفترة الزمنية للاستعراض وتاريخ ظهور التجمع العربي”.
بعد الإطلاع على المقالات والردود والتعقيب أود إبتداءً الإشارة إلى أن الألقاب قيد التقدير، ثم إزجاء الشكر لرشا ثم جلال على فتح كوة الحوار التي سار في ركبها الحلو وانضم إليها الغالي فالسجالات التي أثيرت في تقديري قد تمتد ولا سيما أن التوقع ربما يجنح إلى انتظار التعقيب من رشا، وانضمام آخرين إلى الحالة التي طال افتقادها في الساحة السودانية، هذا بالإضافة إلى أنها من المؤكد فتحت باباً للنظر إلى قضايا كثيرة ذات ارتباط أثارها المقال الأساسي والردود.
لا أود الخوض في محتوى ما نشر ومناقشته أو الدلو فيه بقدر أن حيويته أثارت سؤالاً رئيساً المنهج المرتبط بالنظر إلى جزء التاريخ السياسي الغير مدون سواء في فترة ما قبل الاستقلال لارتباطه بدارفور التي ضم شمالها وجنوبها “سلطنة الفور” في 1916 ثم انضم غربها “سلطنة المساليت” في 1923 ليتشكل السودان غرباً بحدوده الحالية ليستمر عدم التدوين إلى الفترة الزمنية لما بعد الاستقلال، بالعودة إلى المقال الرئيسي لرشا فقد كشف عن التقصير الجمعي المرتبط بالتوثيق لنشأة ومسارات الحركات المسلحة المنحدرة من إقليم دارفور التي انطلق نشاطها في 2002، وظرف نشأتها هل مستقلة أم جاءت تحت تأثير وتحفيز من الحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة الراحل الدكتور جون قرنق ديمبيور في إشارة لحملة الحركة إلى دارفور في 1991 والتي عرفت شعبياً بحملة بولاد، وهنا تعود مسألة التوثيق كمرجع لفك هذا التساؤل بالرغم أن فكرة الثورة في إلهامها لا تثريب في انتقالها إلى الشعوب أو المجموعات التي ترى توافر رؤى تؤسس لثورة، عزز جلال من الظروف الموضوعية لنشأة الحركات في دارفور وارتباطها بالمشهد السياسي لإدارة الدولة، بالمقابل دفع الحلو برده الذي عمل إلى التأسيس التاريخي للمقاومة الثورية في دارفور، من جانبه فتح الغالي نافذة حول ما أثير من دور لحزب الأمة بشكل أخص حول السياسات التي ارتبطت بالأزمة في الإقليم تاريخياً ودور ومساهمات الإمام الراحل الصادق المهدي التي ظلت تسعى لدور رشيد في مناقشة القضايا وادارة السلطة”.
أهمية المنشورات أنها أثارت الانتباه لسياق التكوين للدولة السودانية والعلاقة المرتبطة بالتأسيس لدولة ما بعد الاستقلال، في تقديري أن حيوية ما أثير في شموله يفتح الباب لكي تدلف النيل الأزرق إلى السياق في كونها خرجت من نطاق المناطق المقفولة في 1922 مع الأخذ في الاعتبار سيادة القانون العرفي لسلطنة الفونج على نمط العلاقات وتنظيمها، ولعل السؤال حول كيفية تشكل الدولة بحدودها الحالية وهل تم استيعاب المحمولات الثقافية في مجملها بما يشمل القوانين المنظمة التي كانت سارية عن طريق دمجها في القواعد والسياسات والقوانين التي صدرت من الحكومات المركزية أم أن هنالك عملية إحلال تمت دون مراعاة للحالة الثقافية الراسخة في وجدان شعوب تلك المناطق! من جانب آخر هل استوعبت سياسات حكومات ما بعد الاستقلال المكونات والكيفية التي تكونت بها الدولة استناداً على معايير المواطنة المرتبطة بالسياسات الداعمة للحقوق ومراعاة التنوع والتكاف! وعلاقة مجمل السياسات بالتعاطي مع مسارات تكوين هوية وطنية في الاعتبار طريقة الحكم التي تفلح في إدارة رشيدة متسقة مع الظرف التاريخي والجغرافي.
التوثيق لنشأة الحركات المسلحة ودوافع وظروف نشأتها بالضرورة يدفع إلى شمول الإحاطة بسجل المقاومة في فترتيها قبل وبعد الاستقلال للارتباط العضوي بينها، فعلى سبيل المثال لا الحصر شهدت الثورة المهدية في إحدى مراحها مقاومة في شمال دارفور قادها عثمان آدم الذي اشتهر بـ”عثمان جانو” الذي أرخت له الأستاذة إخلاص علي حمد في رسالة لنيل درجة الماجستير في التاريخ من جامعة الفاشر، ثم أحداث مقاومة للاستعمار في 1952 التي كان مركزها الفاشر.
في سياق نشأة الحركات المسلحة الراهنة في تقديري أن دوافع وأسباب النشأة تتطلب النظر إلى واقع الحالة السياسية المرتبطة بسيطرة الحزبين الكبيرين الأمة والاتحادي ولماذا انكسرت حلقة النفوذ بظهور الحركات المسلحة، وهل هنالك علاقة ارتباط بأسباب أخرى مثل سياسات الحكومات المركزية وترسيم حدود الدولة الغربية ومسالة القوميات، أضف إلى أثر السياسات الاقتصادية المركزية في تراكم اسباب الحالة على سبيل المثال دعم القطاع الرعوي في دارفور استناداً على نسبة مساهمته في الميزانية العامة مقابل إهمال القطاع الزراعي لتراجع مساهمتها أو تخلف بينتها أبعد من الاكتفاء الذاتي بشكل عام، وهو النقيض الذي تم في شرق السودان من دعم القطاع الزراعي الآلي مقابل إهمال القطاع الرعوي وهو ما أفاص فيه الدكتور محمد سليمان في سفره حول صراع المواد والهوية، أضف إلى ذلك تاريخ المليشيات من 1984 ودور الدولة المحوري فيها وإنتاجها لعسكرة حياة بعض المجموعات وكيف وظفت الحركة الإسلامية عقب استيلاءها على السلطة في 1989 كل تلك التناقضات من أجل إحكام بقاءها في السلطة بما قاد إلى المساهمة في تراكم أسباب انفصال الجنوب، وفي الاعتبار الراهن المحتقن في السودان ونقل مسرح الصراع إلى دارفور مع الارتباط بالموارد النفوذ الإقليمي المتجه أنظاره نحو رعاية المصالح، فضلاً عن صراعات دول الجوار ومشاركات القوميات.
رد فعل السلطة المركزية على ظهور الحركات وماهيته وما نتج عنها، التكتيكات التي استخدمت مثل الرقابة على ما حدث منا نتج عنه تراجع معرفة السودانيين والسودانيات عن ما جرى في دارفور من مصادر إعلامية وحقوقية وطنية بما أنتج تراجع في التضامن مع الضحايا فاعتصام نيرتتي في 2020 كان حدثاً تاريخياً قاد الكثيرين إلى إعادة اللحمة واكتشاف السودان في جغرافيا كانت محصنة بالرقابة بل ترزح تحت وطأة رقيب واخفاء أنماط الانتهاكات وتكذيبها في حالة مورست فيها ممارسات مثل العقاب الجماعي والتجفيف الاقتصادي وغيره.
الحركات المسلحة وحركات الكفاح المسلح، في تقديري هو سؤال محوري في المنشورات لكن للوصول إلى إجابات لابد من استصحاب السجل أعلاه وإضافة للبحث عن العوامل الذاتية المرتبطة بالحركات من مسألة المنفستو، القيادة والتحولات المطلوبة في السياقات الزمنية بما يشمل محطتها الأساسية مؤتمر حسكنيته في 2004 وهذا لا ينفك عن استصحاب لماذا تم استخدام مجموعات من داخل وخارج الإقليم في سلك المليشيات وعلاقة الأمر بسياسات الدولة الاقتصادية في التمييز في التعامل بين علاقات الإنتاج الرعوية والزراعية، وهو الأمر الذي عمد على قطع حالة الديالكتيك لينصب فخ التقابل بين أطراف الحالة.
أخيراً: ستظل الحوارات التي تلامس قضايا محورية ذات أثر مهم في السياق فهي تحفز للنظر والقراءة والتحليل واستدراك السجل في انتباهه لما ظل مركوناً في الأذهان والمشافهة، التوثيق والتدوين للتواريخ يظل مرتبطاً بمهام التأسيس للدولة السودانية في سياق الفترة الراهنة فالتحول إلى الاستمتاع بالديمقراطية والاستقرار يتطلب التعامل بمناهج مع القضايا المختلفة بما فيها الحرب والسلام بامتدادها إلى خارج الحدود سواء اليمن، ليبيا وأفريقيا الوسطى وكذلك المواطنة فلا زلنا نتجادل حول من نحن! مع الأخذ في الاعتبار أن المطلوبات للتدوين المنهجي والنظر للسياق يتطلب كذلك النظر بدقة إلى القاموس لتوصيف/ تعريف الأحداث وأسباب نشأتها وتطورها فتصنيف علاقات الإنتاج وما تفرع من أنماط مشتركة زراعية ورعوية كنتاج لأسباب طبيعية وغيرها بما يستصحب النظر إليها بما يكسر حالة التقابل التي صارت ملغمة ذهنياً وفي أرض الواقع بالبارود، والشاهد أن بيانات التنسيقة النازحين واللاجئين بدارفور لا تزال تشير إلى المنتهكين بـ”الجنجويد” بالإضافة إلى التفرعات المهملة في استخدامات الموارد مثل السياحة فضلاً عن الموارد الجديدة كالذهب والبترول والتغيرات الديمغرافية كحالة ارتبطت بعوامل طبيعية وسياسية في السلم والحرب معاً يمكن من قراءة السياسات في سياقاتها المختلفة سواء الاقتصادية أم السياسية فصار من الضروري أن تشمل التطورات والمآلات المحتملة فالتعداد السكاني في شموله كأرقام حري النظر إلى فئاته التي بها جيل ولد وترعرع داخل مخيمات اللجوء والنزوح ورغم ذلك على ارتباطات بالحركات المسلحة وبلجان المقاومة دون إغفال انخراط البعض في سلك القوات النظامية كالشرطة كفرص عمل أو للحماية حتى نحفز الحالة للمضي نحو حوارات أعمق تحمل وقائع تسند ترجيح الاقتراب من الواقع.
المصدر: صحيفة التغيير