تراجع التساقطات المطرية في “الحوض المائي سبو” يثير مخاوف المزارعين
يعيش المغرب على وقع موجة جفاف قاسية منذ نهاية عقد السبعينيات وبداية عقد الثمانينيات، وإن كانت بعض السنوات الرطبة نسبيا مثل سنتي 1996 و2009 أو موسم 20202021 القياسي، قد ساعدت في إحياء الأمل في عودة الأمطار وتحقيق نمو اقتصادي كبير، خاصة بالقطاع الفلاحي الذي يشكل عمودا أساسيا في الناتج الداخلي الخام يتراوح بين 15 و18 بالمائة.
غير أن دراسة علمية صدرت مؤخرا في مجلة المناخ “Climate” السويسرية حول اتجاه التساقطات المطرية بالحوض المائي لسبو، أهم حوض مائي بالمملكة المغربية، أشرف عليها الطالب الباحث في سلك الدكتوراه رضوان كسابي رفقة أستاذه المشرف الدكتور محمد حنشان وبمشاركة باحثين آخرين، بينت حجم التراجع الخطير الذي تعرفه كمية التساقطات بالحوض المائي لسبو. في هذا البحث العلمي حلل الباحثون معطيات التساقطات المطرية الشهرية لـ 15 محطة قياس موزعة بشكل جيد على الحوض المائي موضوع الدراسة، خلال الفترة الممتدة من 1961 إلى 2018 بالاعتماد على اختبار مان كيندال غير المعملي وانحدار ثيل سين مع مقاربة كارطوغرافية تبين اتجاه وحجم التراجع أو التزايد الذي تعرفه التساقطات المطرية السنوية والفصلية والشهرية.
وقد بينت النتائج المتوصل إليها وجود تراجع كبير للتساقطات المطرية السنوية على طول خط يمتد من محطة مكناس إلى تازة، وصولا إلى محطة بورد، وهو تراجع له دلالة إحصائية عند مستوى معنوية 95 بالمائة، بينما سجلت باقي المحطات بالأطلس المتوسط وتلال مقدمة الريف تراجعا مهما وإن كان غير ذي دلالة إحصائية عند مستوى معنوية 95 بالمائة. كما بينت الدراسة أن مجمل التراجع الذي سجلته التساقطات المطرية السنوية يعود بالأساس للتراجع الكبير المسجل في تساقطات فصلي الشتاء والربيع، بينما بينت الدراسة أن هناك تزايدا في التساقطات المطرية الخريفية وإن كان تزايدا طفيفا غير ذي دلالة إحصائية.
بينت الدراسة أيضا تراجعا كبيرا في التساقطات المطرية الشتوية تراوحت بين ناقص 10 ملمترات كل عقد جنوب وغرب الحوض المائي، بينما وصلت إلى قيم تتجاوز ناقص 47 ملم لكل عقد في محطة جبل ودكة في الريف الغربي. في المتوسط شهد الحوض المائي خلال فصل الشتاء تراجعا بـناقص 19 ملم كل 10 سنوات خلال الفترة المدروسة. يفسر التراجع الذي شهده فصل الشتاء بالتراجع الذي تعرفه أمطار شهري دجنبر وفبراير بالخصوص.
يُظهر هطول الأمطار في الربيع اتجاهًا هبوطيًا في جميع المحطات تقريبًا، وهو انخفاض ذو دلالة إحصائية في 9 محطات، تمثل 60 بالمائة من المحطات 15 المستخدمة في الدراسة. في تلك المحطات التسع تراوحت قيم منحدر ثيل سين Theil Sen حول اتجاه وحجم هطول الأمطار الربيعية بين ناقص 11 وناقص 16 ملم كل 10 سنوات، وهو ما يعني تناقص ما بين 64 ملم و93 ملم في هذا الموسم المهم للزراعات الربيعية، وهي كمية مهمة جدًا في سياق المناخ المتوسطي الذي يتميز أصلا بانخفاض وتقلب هطول الأمطار.
وتجدر الإشارة إلى أن أكبر انخفاض حدث في المناطق الجبلية، التي تعتبر خزان المياه الرئيسي للبلاد. يفسر التراجع الكبير للتساقطات المطرية الربيعية التدهور الكبير الذي تشهده تساقطات شهري مارس وأبريل. التراجع في هطول الأمطار لشهر مارس جاء عاما وشاملا، وقد سُجّل بجميع المحطات تقريبًا، وهو ذو دلالة عند مستوى 95 بالمائة في محطات عزابة والمرس وفاس. هذا الانخفاض في هطول الأمطار بلغ ناقص 4 ملم لكل عقد في المتوسط، في حين تم تسجيل ناقص5.2 ملم لكل عقد في محطات عزابة، فاس، المرس وجبل ودكا، وأهم تراجع سجل في محطة مكناس بناقص 7 ملم لكل عقد. يسجل شهر أبريل أيضًا اتجاهًا سلبيًا عامًا في جميع المحطات، ذا دلالة إحصائية عند مستوى 95 بالمائة في محطتي بورد والمرس. متوسط حجم هذا الانخفاض في هطول الأمطار هو ناقص 3.5 ملم لكل عقد، بينما سجل ناقص 5ملم في محطات المرس وفاس وإفران، في حين وصل الحد الأقصى إلى ناقص 7.2 ملم لكل عقد في محطة بورد.
في فصل الصيف الجاف أصلا في المناخ المتوسطي (المغرب) سجلت الدراسة تراجعا كبيرا في تساقطات شهر يونيو/حزيران وإن كانت كميتها قليلة. في الفصل نفسه سجلت بعض المحطات الواقعة بالأطلس المتوسط اتجاها تصاعديا للتساقطات المطرية الصيفية كمحطتي المرس وآيت خباش.
يفسر كل هذا التراجع للتساقطات المطرية في الفصل الرطب بأسباب دينامية لها علاقة بالدورة الهوائية العامة حول المغرب، منها هيمنة أنماط طقسية ضد إعصارية بسبب المرتفع الجوي الأصوري، الذي يعتبر القاعدة وليس الاستثناء خلال فصل الشتاء حسب العديد من الدراسات، حيث يهمن الجزء الشرقي من هذا المرتفع الجوي على البلاد مع رياح شرقية (الشرقي) على الجزء الشمالي من المغرب، أمر يتعزز بخلايا للضغط الجوي المرتفع ذات السبب الحراري، والناتجة عن البرودة الكبيرة التي تعرفها المناطق الجبلية (سلسلة الأطلس الكبير والمتوسط)، مما يعطي جوا مشمسا وسماء صافية، مع فوارق حرارية كبيرة وغياب تام للتساقطات المطرية.
يؤثر الانخفاض الكبير في هطول الأمطار في الفصل الرطب، أي الشتاء والربيع، على المحاصيل الزراعية الرئيسية (مثل الحبوب والبقوليات)، ولكن أيضًا على الأشجار المثمرة، ويهدد توفر المياه في الأحواض النهرية بشكل يثير مخاوف عدد كبير من الجهات، بما في ذلك عامة السكان، حيث سجلت العديد من الاحتجاجات حول ضعف وانقطاع تزويد العديد من القرى والبلدات خلال الصائفة الماضية بعد سنة 2022 شديدة الجفاف، كما شهدت هذه السنة موت الأشجار المثمرة بسبب الجفاف في الكثير من المناطق، وهو أمر امتد إلى الغابات الطبيعية في الريف والأطلس المتوسط، حيث عانت الغابات من إجهاد حراري كبير وجفاف أنهكها وجعلها عرضة للأمراض والموت على مساحات شاسعة.
ساهم التناقص الكبير للتساقطات المطرية خلال العقود الأخيرة في توجيه اهتمامات القطاع الفلاحي بالمغرب للاستغلال الوحشي للموارد المائية الباطنية التي تعرف تدهورا خطيرا جدا، مع تشجيع بعض السياسات العمومية كمخطط المغرب الأخضر الذي شجع السقي حتى في المناطق الجافة جدا والقاحلة عبر زراعات مضاربة كالبطيخ الأحمر، واليوم يفكرون في زراعة الأفوكادو رغم هول الكارثة التي يخلفها الجفاف، مما يطرح أكثر من سؤال عن المنطق والعقل الذي يحكم صانع السياسات الفلاحية بالمغرب.
المصدر: هسبريس