بوطيب.. جندي متقاعد مهتم بتاريخ المغرب يتمترس في خندق القراءة منذ عقود (فيديو)
غرفة مكتظة بالكتب إلى درجة لم تستوعبها رفوف الخزانة، فتكدست على الجنبات كيفما اتفق، وجدران حجبتها اللوحات والتحف المثبتة عليها، وأكوام من الأشرطة السمعية وأشرطة الفيديو “كاسيط”، وملصقات سينمائية دعائية تعود إلى فترة الستينات من القرن الماضي.. في هذا الفضاء يمضي الجندي المتقاعد عبد اللطيف بوطيب معظم أوقاته كناسك يعتكف في محراب لا يكسر صمته سوى زقزقة عصافير “طبيبط”، كأنها تحكي قصة رجل مولع بالثقافة والتاريخ المغربيين، كرس معظم حياته للقراءة وشاخ بين الكتب.
يحاول بوطيب أن يستوي في جلسته لكن عددا من العصافير تنبهه بزقزقتها، فيستلّ نفسا عميقا وينهض، يدخل كفه في كيس ويخرج حفنة من الحبوب يضعها على الأرض، فتتجمع حولها الطيور. هذه الكائنات على الرغم من أنها تلوث المكان بفضلاتها، إلا أن عبد اللطيف يستأنس بها ويرها جزءا مهمها لا يكتمل الفضاء إلا بوجودها.
يحكي بوطيب، في حديثه مع “العمق”، أن طفولته المبكرة صادفت سنوات 1956 و1957، وهي الفترة التي تخلص فيها المغرب من أغلال الاستعمار ، آنذاك كان شقيقه محمد الذي يكبره ببضع سنوات يتابع دراسته على الطريقة الفرنسية، بحيث كان لا يدرس العربية، إذا كان جل زملائه من الأوروبيين، و”كان أخي مولعا بالقراءة، فتشكل لدي ارتباط بالكتاب منذ الطفولة”.
تصوير: سليم الحسوني مونتاج: ياسين السالمي
لما ولج عبد اللطيف بوطيب للمدرسة، بدأ تعلم اللغة الفرنسية في القسم الثاني، لكنه لم يكن يكتفي بكتب المقرر الدراسي، فـ”بداية علاقتي بالكتب خارج المدرسة كانت مع كتب أخي، على الرغم من أنها أكبر من مستواي آنذاك”، فداوم على القراءة باللغة الفرنسية.
“العربي الصغير” والحلاق
شعر رأس وخطه الشيب، يتركه بوطيب طويلا، ويجمعه في ضفيرة يسدلها وراء ظهره. يحكي الرجل بنبرة يملؤها الحنين إلى الماضي، كيف قاده هذا الشعر، قبل أن يخالطه البياض، إلى دروب القراءة: “لما وصلت لمستوى الشهادة كان الوالد يصطحبني، من أجل قص شعري، إلى حلاق كان من الجنود القدامى الذين شاركوا في حرب الهند الصينية (لاندوشين)”.
كانت منضدة تتوسط صالون الحلاقة، وضعت عليها صحف ومجلات بينها مجلة “العربي الصغير”، التي كانت تعطى هدية مع كل عدد من مجلة العربي الكويتية، ريثما يحين دوره، كان الطفل عبد اللطيف، آنذاك، يأخذ “العربي الصغير” بين كفيه يقلب أورقها بأنامله ويشرع في قراءتها، “وعندما يحين دوري كان الحلاق يسمح لي بأخذ المجلة معي، شريطة أن أقرأها كاملة قبل أن أقصد صالونه في المرة القادمة، فكنت أحرص على قراءتها”.
لكن على الرغم من ذلك كانت قراءته بالعربية محدودة، “كنت لمدة سنوات أقرأ كثيرا باللغة الفرنسية، ولما وصلت مستوى البروفي (ما يقابل الثالثة إعدادي) كان لدينا بثانوية مولاي يوسف بمدينة مكناس مكتبه لإعارة الكتب مقابل 10 سنتيمات لمدة أسبوع، فكنت أستعير كتبا باللغة العربية، خصوصا رحلة ابن بطوطة”.
السينما
تضم خزانة بوطيب العشرات من الملصقات السينمائية الدعائية، تعود إلى فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كلها مرسومة باليد، ملفوفة في ركن من الغرفة، عندما يستل إحداها ويبسطها أمامه برفق وينفض عنها الغبار، كأنه ينفض الغبار عن جزء من ذاكرته، تتراءى له فترة من طفولته وشبابه، كان يرتاد خلالها قاعات السينما راكضا وراء الأفلام الجديدة والمدبلجة.
يحكي بوطيب أن أحد أقربائه كان يعمل في الشرطة، وبحكم عمله في تأمين قاعات السينما كان يصطحبه وإخوته ليتفرج على الأفلام السينمائية، “فتكونت لدي منذ الطفولة علاقة وطيدة بالسينما، ودائما كنت ألح وأبكي لأطلب من والدي أو والدتي الذهاب إلى السينما، فتعودت على أن أتفرج في فيلم في الأسبوع على الأقل”، فحب السينما “دفعني إلى عشق (فن الأفيش)”.
ترعرع بوطيب في حي تؤثته ثلاث قاعات سينما هي؛ “مونديال” و”الأطلس” و”أبولو”، لم يتبق منها اليوم سوى جدران صامتة يلفها النسيان، فالسينما، كما يقول، “مطبوعة في أعماقي وكانت هي الطريقة الوحيدة للترفيه إبان فترة طفولتي وشبابي، وكانت في نظر الكثير من الناس (عيب)، إذ كان عدد من الآباء ينصحون أبنائهم بالابتعاد عني وعدم مرافقتي، لأنني أرتاد قاعات السينما”.
جل الأفلام التي كان يتابعها بوطيب، خصوصا لما شارف على الـعشرين من عمره، كانت باللغة الفرنسية، كما كانت تستهويه كتب الخيال العلمي، “كنت خلال هذه الفترة مولعا بكتب الخيال العلمي المكتوبة بالفرنسية، فراكمت في خزانتي ما يفوق 500 كتاب في هذا المجال”.
بعد ذلك بسنوات قليلة وجد الشاب عبد اللطيف بوطيب نفسه قد سئم من كتب الخيال العلمي، فـ”ارتميت إلى قصص الأنبياء لأنها مليئة بالمعجزات، فمن خلال اهتمامي بالسينما والخيال العلمي أصبحت مولعا بالغرابة، فكنت أجد راحتي في قراءة كتاب في مناقب الأولياء والصالحين، وهو عبارة عن حاشية لكتاب عرائس المجالس للثعلبي”.
البوعناني
يتذكر بوطيب كيف أدى الإعلامي محمد البوعناني دورا مهما ساهم في تعلقه بالتاريخ والثقافة المغربيين، “كنت إبان عملي في الجيش الملكي أغادر الثكنة كل مساء إلى البيت، فأجد والدتي قد أعدت الشاي والقهوة، وكنت أصادف برنامجا تثقيفيا يقدمه الإعلامي محمد البوعناني”.
دامت حلقات هذا البرنامج لمدة شهر، يحكي بوطيب، كل يوم يطرح البوعناني سؤالا، قبل أن يجيب عن الأسئلة في الحلقة الأخيرة، “عندما يطرح السؤال تنتظر مني الوالدة جوابا قائلة: ( أش قلتي اسي عبد اللطيف؟)، وكان العجز عن الجواب يشعرني بحرج شديد”.
كانت والدة بوطيب، بحسب ما يحكي، تستغرب عجزه عن الإجابة عن أسئلة البوعناني التي كانت حول سلاطين المغرب وتاريخه ومعماره، خصوصا أنه قارئ نهم والكتاب لا يفارق يده، بينما استطاعت هي الإجابة عن أسئلة لها علاقة بالنقود والسكة المغربية، وهو ما عمق إحساسه بالحرج، فقرر أن يشق طريقا وسط كتب التاريخ.
يحكي بوطيب أنه كان ينتظر حلقة آخر الشهر من برنامج البوعناني على أحر من الجمر، أعد ورقة وقلما وتسمر أمام التلفاز، وبمجرد أن بدأ البوعناني في عرض الأجوبة، شرع هو في تدوينها، كما دون أسماء عدد من الكتب التي أحال عليها مقدم البرنامج، أولها كتاب “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” للمؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري.
قصة البحث عن الاستقصا
حاول بوطيب الحصول على نسخة من كتاب الاستقصا، لكنه لم يعثر عليها في المكتبات، وبحكم عمله في الجيش، كانت الثكنة تضم جنودا من مختلف المدن المغربية، “فكنت أسألهم عن الكتاب هل تتوفر نسخة منه في المكتبات بالمدن التي يتحدرون منها”.
بعد إحالته على التقاعد، زاد ولع بوطيب بكتب التاريخ وأدب الرحلة، و”كل ولع له ضريبة والإنسان المولوع ينفق على في سبيل مع يعشق”، كما يقول، واستغل وقته الإضافي في الأسفار وواصل بحثه عن عدد من الكتب، وعلى رأسها “الاستقصا”، “أنفقت في هذا المضمار ما في استطاعتي وأكثر .. بعض المرات تقطع من مصارنك باش تأخذ كتاب”.
لم يتمالك بوطيب، بحسب ما حكى لـ”العمق”، نفسه من الفرحة عندما حصل على مجلد يضم جزأين من “الاستقصا”، (من الطبعة المصرية التي تضم أربعة أجزاء)، وكان عبارة عن هدية من طالب جامعي سبق أن ساعده في الاشتغال على بحث تخرج حول تاريخ الامازيغ، كان قد ورثه عن جده، وفيه بعض الحواشي بخط يده. بعد ذلك تمكن من الحصول على الجزأين الآخرين من أحد باعة الكتب القديمة في “الجوطية”. و”يسر الله أيضا في نسخة من الطبعة المغربية للكتاب من تسعة أجزاء”.
كان بوطيب خلال قراءته لعدد من مقالات الكاتب والباحث المغربي ووزير التعليم الأسبق محمد الفاسي، يجده كثير الاستشهاد بكتاب “سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس” لمحمد بن جعفر الكتاني، فأثار ذلك فضوله، ليجد نفسه يكد في الحصول على نسخة منه.
مثل تائه في الصحراء أنهكه العطش يبحث عن شربة ماء، كان بوطيب يسعى لإرواء عطشه من كتب التاريخ، “خلال زياراتي لأختي في تطوان، حيث كانت تقطن، كنت أطوف بين المكتبات إلى أن وجدت نسخة من كتاب الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون لابن غازي المكناسي، فأرشدني صاحب المكتبة إلى مكتبة أخرى تبيع نسخا (فوطوكوبي)، لكن بجودة عالية، لكتب كنت أبحث عنهما وهي سلوة الانفاس ومرآة المحاسن والدرر البهية”.
عشق بوطيب للثقافة المغربية واهتمامه بكتب التاريخ وجمعها، يصطدم اليوم بواقع يدركه الرجل جيدا، لكنه يظل عاجزا أمامه، فهذه المكتبة التي ظل يراكمها على مر عقود، ضجت بالكتب والمجلدات، ففاضت الأوراق على كل شيء في البيت، فوق الفراش وعلى الأرض، “حتى غرفة النوم لم تسلم”، يقول الجندي المتقاعد بنبرة ساخرة.
المصدر: العمق المغربي