اخبار الكويت

رمضان اللبناني.. لا فوانيس في زمن الكوابيس

بدت بيروت في فَرَحٍ كئيبٍ وهي تستقبل شهر رمضان المبارك الذي لطالما كانت تَحْتفي به بمظاهر بدأت «تختفي» منذ أن حلّ الانهيارُ الذي تحلّلتْ معه الدولة ورمى اللبنانيين تحت أحزمة البؤس والفقر وعلى ضفافها.

لا أضواء ولا خِيَم في ظلالِ السقوط المريع، لا أقواس فرح ولا ألوان في كنف الأيام السود، لا فوانيس ولا مَصابيح في زمن الكوابيس… هكذا أطلّ الشهر الفضيل بلا صخب كَتَمه هدير الانهيار الكبير الذي «جنّ» معه الدولار بعدما خرق كل الخطوط القياسية فوق المئة ألف وتَفَلَّتَ من كل قيد، مُغْرِقاً البلاد والعباد في فوضى مالية واضطرابات معيشية، ودافعاً الأسعار نحو آفاق حارقة ذابت معها الليرة وقدرة المواطن العادي على مجاراة ارتفاعها الهستيري.

فيصل بن فرحان

ولم يعد صحن الفتوش هو المؤشر الوحيد المعتمَد لاحتساب كلفة المائدة الرمضانية وقياس منسوب التضخم المتوحّش الذي يطال العائلات ويؤرقها في رمضان، بعدما صارت كل لقمة خبز أو نقطة ماء عبئاً على العائلات.

نعم صار الخبز الناشف يفوق قدرة الفقراء بعدما بات سعر الربطة يخضع لميزان يومي ويرتفع مع تحليق سعر الدولار. حتى مياه الشرب، وهي حقٌّ أساسي من حقوق الإنسان، أصبحتْ تكلفتُها مهولة بعدما عجزت الدولة اللبنانية عن تأمين المياه النظيفة إلى مواطنيها واضطرتهم لشراء المياه المعبأة في الغالونات بأسعار لا تنفك ترتفع يوماً بعد يوم. وإضاءة مصباح فوق طاولة الطعام صار يُحسب له حساب بعدما أبلغت الدولة مواطنيها برفع التعرفة الرسمية للتيار الكهربائي أضعافاً وأضعاف وقد بدأ المواطنون يكتوون بسعرها الحارق الى جانب اكتوائهم بتعرفة المولدات.

سابقاً كانت العائلات تخشى الغلاء الذي يرافق رمضان المبارك، لكنها رغم ذلك كانت تنتظره بلهفة وتتحسّب له مسبقاً بأموال تقتطعها من مصروفها السنوي وتخصصها للشهر الفضيل.

ويقول يوسف وهو رب عائلة: «لطالما تمكنتُ من توفير مبلغ معيّن لشهر رمضان لأتصدّق بما يتوجّب عليّ ولأعيش موائد الشهر الكريم ومتطلباته مع عائلتي والأهل على أفضل وجه. هذه السنة لم يكن ممكناً وضع أي مبلغ جانباً على مرّ الأشهر، فالأزمة والغلاء الناجم عنها وتَراجُع راتبي أجبرني على أن أعيش كل يوم بيومه على مدى الأشهر الماضية. واليوم أتّكل على رب العالمين وحده لأمرر شهر رمضان وأفي بواجباتي كلها».

أطباق تقليدية وتراثية عهدها اللبنانيون في شهر رمضان لن تكون حاضرة هذه السنة. والوفرة التي لطالما ميّزت موائد رمضان ستتراجع الى الحد الأدنى. وتقول أم أحمد: «لا يمكن أن نلغي إفطارات رمضان، لكننا سنختصرها بما يتلاءم مع قدرتنا. وتَعَدُّد الأطباق الذي اعتدنا عليه سنلغيه لنضع على المائدة طَبَقاً واحداً بمواد متواضعة. سأجوب المحال لأجد الأوفر والأقلّ ثمناً وأعدّ ما استطعت. الحلويات والعصائر والفاكهة ربما ننساها أو نلجأ الى الأرخص بينها».

هل يكتمل رمضان بلا حلوياته وجلّابه وبلا التمر الهندي وقمر الدين؟ لا شك في أن عائلات كثيرة ستنَهك لتأمين هذه الأصناف وأخرى لن تكون قادرة على ذلك. ففي أحد محال الحلويات في منطقة شعبية مكتظة، بَلَغَ سعر كيلو الحلويات العربية المشكّلة 15 دولاراً (أي نحو مليون و600 ألف ليرة وفق سعر الدولار الأسود حالياً) وهي أصناف شعبية لا تُعتبر فاخرة. فيما تلك التي تبيعها المحلات المعروفة يصل سعرها الى 40 دولاراً أو يتخطاه… وهي مبالغ متى احتُسبت بشكل يومي جعلتْ فاتورة رمضان ثقيلة جداً على كاهل العائلات اللبنانية وشكّلت من جهة أخرى ضربةً لقطاع يئنّ ويعاني هو قطاع الحلويات الذي اعتاد أن ينتظر الشهر الفضيل ليؤمّن ربحاً عادلاً فإذ به يصاب بنكبة جديدة.

أزمة طحين وزيت وسكر تضاف الى أزمة المازوت والبنزين والغاز وسعر الصرف الذي رَفَعَ سعر المواد الأولية لصناعة الحلويات، وغالبيتها تأتي من الخارج مثل الزبدة والحليب والكريما والقشطة والجبنة والشوكولا، وهذا ما غيّب «التحلاية» عن موائد غالبية اللبنانيين في رمضان ليتم استبدالها بأصناف بيتية متواضعة تحضّرها ربة البيت بيديها بأبسط المكوّنات وقد تستغني عنها بعض العائلات. أما الضيافات التقليدية التي تدخل في صلب العادات الرمضانية، كالمكسرات والقلوبات والفاكهة المجفّفة والملبن والشوكولا والمعمول، فكلها باتت ضيفاً ثقيلاً على جيوب الناس بسبب ارتفاع غير معقول في أسعارها وهو ما سيدفع بعائلات كثيرة للاستغناء عنها وخصوصاً أن الضيوف قلائل والاستقبالات مختصَرة.

«هذا ما يحز في نفسي» تقول حاجة مسنّة «فهل يمكن أن نمنع الحلويات عن أولاد ينتظرونها كما ينتظرون يوم العيد؟ ماذا نقول لأولئك الصغار الصائمين الذين نحاسب عنهم في يوم القيامة وهم يطلبون النمورة وحلاوة الجبن وقالب الحلوى؟ كيف نسكتهم ونتحاشى نظراتهم السائلة؟. الكبار قادرون على التحمل ولكن ماذا نفعل بالصغار؟ حتى الجلاب والتمر هندي والعرقسوس لم نعد قادرين على شربها. أما اللحوم فكدنا ننسى طعمها ما خلا أدنى نوعياتها… شحّذونا الماء. ولكن ربنا موجود وهو لا يقطع بأحد».

التكافل والتضامن

رنين البرجاوي سيدة ناشطة اجتماعياً تعيش على الأرض ما تعانيه العائلات على اختلاف مواردها من صعوبات يومية، وتقول: «رمضان هذا العام لا شك هو الأصعب مع ما نشهده من تدهور للأوضاع الاجتماعية وغلاء جنوني في الأسعار. إفطارات رمضان المعروفة بتنوُّع أطباقها سيغيب عنها غِنى المائدة. وغالبية العائلات ستكتفي بطبَق واحد فقط للإفطار وتلغي الأصناف غير الأساسية مثل الفتوش أو الحساء وقد تأكل الطبَق ذاته ليومين. والتنافس بين ربات البيوت سيتمحور حول مَن منهن الأكثر قدرة على إعداد المائدة الأقل كلفة».

تقول رندة وهي ربة عائلة وأم لطفلين: «رمضان هو شهر الصلاة والتوبة، وما أحوجنا هذه الأيام لهما. سأعلم ولديّ أن مائدة الإفطار لا تعني فقط الوفرة وتنوُّع الأصناف ولا التطلع الى موائد الآخَرين والسعي للتشبه بها بل هي بجَمعة العائلة بتقوى ومحبة حول طعام يتناولونه معاً ويشكرون رب العالمين عليه مهما كان متواضعاً».

المبادرات الخيّرة التي تقوم بها الجمعيات الأهلية، والتضامن الإنساني بين الناس على مختلف فئاتهم، يخفف من قتامة الصورة. خزامة الهاشم أطلقت على صفحتها الخاصة على فايسبوك مبادرة لجمع بعض الأموال للتكفل بتقديم مساعدات مالية لعشرعائلات من حولها، وهي تدعو كل شخص قادر على القيام بالمثل ومساعدة مَن يراهم بحاجة حوله أو أقله تأمين صنف يحتاجونه كالزيت أو الحليب أو الأرز وربما اللحم و الدجاج… مبادرة بسيطة ليست مكلفة لكنها تعيد الى الشهر الفضيل معناه الإنساني.

سيدة أخرى طرحت فكرة تحضّ الجميع على تطبيقها لأنها على بساطتها تنقذ المعدَمين وتضع الخير على موائدهم الرمضانية. وعنها تقول: «فليحاول الجيران أو أبناء الحي الواحد أن يضيفوا الى»طبختهم«صحناً واحداً ليقوموا بعدها بتبادُل الصحون الإضافية فيما بينهم لتغتني الموائد وتتنوّع حتى عند الأقل قدرة على المساهمة…».

الجمعيات بدورها استنفرت أهل الخير للتبرّع بغية جمْع المساعدات وتأمين التمويل الكافي لمبادراتٍ تهدف الى مساعدة الناس في الشهر الفضيل. جمعية المقاصد الإسلامية أطلقت حملة «إفطار صائم» لمساعدة المؤمنين على أداء طاعتهم في فريضة الصيام المباركة. لكن صورة الإفطارات اليومية التي كانت ترعاها بعض المؤسسات التابعة لرجال السياسة مثل مؤسسة مخزومي أو الصفدي لم تتوضح بعد رغم أنها كانت تشكل علامةً فارقة في العمل الاجتماعي على مر الأعوام السابقة.

لكن ليست الموائد الرمضانية وحدها ما يختلف هذه السنة، بل ثمة عادات كثيرة تمّ التغاضي عنها. زينة الشوارع بالأضواء والرموز الرمضانية اقتصرت على بضعة شوارع في بيروت وتغيب عن الساحات الأساسية. دار الأيتام الإسلامية التي تتولى عادة هذه الزينة لم تخصص لها هذا العام سوى 10 في المئة من الميزانية التي كانت تُخصص سابقاً. فالاحتياجات كثيرة والأولويات في مكان آخَر.

في صيدا عملت السيدة بهية الحريري مع فاعليات عاصمة الجنوب على الحفاظ على النشاطات الرمضانية في المدينة ولو بحدّها الأدنى، وأطلقت فاعليات «صيدا مدينة رمضانية» قائلة «على الرغم من الظروف الصعبة التي يمر بها البلد، علينا دائماً أن نفتح نافذة أمل للناس بمبادراتٍ يتشارك فيها الجميع آخذين في الإعتبار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي استجدّت وفرضت نفسها على الأوضاع المعيشية والحياتية للمواطنين، وما تستدعيه من إطلاق وتعزيز كل المبادرات الإجتماعية والإنسانية تأكيداً على الروح التكافلية التي تتميز بها المدينة في هذا المجال ولا سيما خلال الشهر الفضيل، وهو أمر ليس بجديد على صيدا». ولذلك سيكون لصيدا مجموعة من الأنشطة الرمضانية الجاذبة في المدينة القديمة ومحيطها تحت إشراف البلدية.

ومن العادات الأخرى التي سيجهد اللبنانيون للحفاظ عليها رغم ما ترتّبه من أعباء مالية عليهم هي اللمة الرمضانية والجمْعة العائلية التي ستختصر الى حدها الأدنى: «كنا ننتظر الشهر الفضيل لنعيد شدّ أواصر القربى والصداقة مع مَن نحبهم وتمنعنا مشاغل الحياة اليومية من رؤيتهم، وكانت إفطاراتنا احتفالات عائلية يومية حافلة بالضحك والمرح والصوت العالي والذكريات وبعدها بالغناء والأراكيل حتى السحور أحياناً… اليوم بتنا غير قادرين على تحمل كلفة»العزايم«. تقولها رولا صراحة»لا بل أن الضحكة غائبة عن يومياتنا. وأحاديثنا كلها تدور حول الغلاء والوضع في البلد وما وصلنا إليه”.

في سنوات الخير غالباً ما كانت جلسات الأهل بعد الإفطار ومدعويهم تطول حتى ساعات متأخرة من الليل وصولاً الى السحور في بعض الأحيان. لكن في السنوات الأخيرة بات الساهرون في رمضان مدعوون الى التخلي عن هذه العادة ليأووا الى النوم في الساعة التي يحدّدها أصحاب المولدات الذين لا زال كثيرون منهم يطفئون مولداتهم ليلاً تاركين البلاد وبيوتاتها وعائلاتها غارقة في ظلامٍ لا تعرف متى ينتهي.

المصدر: الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *