قيام النقابات ليس سدرة منتهي التحديث و التغيير الاجتماعي: مفاكرة حول قيام نقابة الاطباء
بكري الجاك
جادلت من قبل أنه، مثلما أن هنالك عملية انتقال سياسي في السودان، فهنالك ايضا عملية انتقال اجتماعي. يمكن تعريف عملية الانتقال السياسي بأنها “الحقبة التي تشهد نهاية نظام سياسي وتخلٌّق نظامٍ سياسي آخر”. في تقديري أن المجتمع السوداني الآن يمر بمرحلة انتقال اجتماعي، بمعنى أن المؤسسات التقليدية القائمة على الانتماءات الأولية (قبيلة، طائفة او جغرافيا)، بدأت في فقدان قدرتها على تنظيم المجتمع والتعبير عن مصالحه ولعب دور فعال في ديمومة نظام اجتماعي وسياسي Political and Social Order، وفكرة النظام الاجتماعي هنا تتجاوز مفهوم نظام الحكم لتشمل فكرة العقد الاجتماعي الناظم لحركة المجتمع ككل. وبالرغم من أن هذه المؤسسات التقليدية في حالة تراجع إلا أن المؤسسات الحديثة البديلة التي ينتظم فيها الناس على اساس المصلحة ما زالت قيد التَخلٌّق. فكرة انتظام الناس على اساس المصلحة ومن ثم قيام اجسام مدنية تعبر عن تعدد وتنافس وتضارب هذه المصالح هي جوهر فكرة المجتمع المدني في مجتمع مفتوح، وهذا التنافس هو عماد قيام طبقة وسطى كشرط ضرورة لقيام واستمرارية الانظمة الديمقراطية وفق التصّور الليبرالي المستمد من فكرة العقد الاجتماعي، مع ضرورة قيام الدولة كجهة منظمة لهذه العلاقات ولحفظ النظام الاجتماعي والسياسي.
وفي تاريخ السودان الحديث، كانت هنالك عدة محاولات تحديث للمجتمع السوداني، أعني بعملية التحديث هنا تَمَديُن الحياة وتنظيم المجتمع على اساس المصلحة التي تتجاوز العلاقات والانتماءات الاولية. ومن بين تلك المحاولات التعليم النظامي وجهاز الدولة بمؤسساته العسكرية والمدنية من خدمة مدنية وهياكل، كما أن هنالك محاولات أخرى مثل النقابات واتحادات العمال وبعض تجارب الاحزاب السياسية التي حاولت ان تطرح برامج سياسية تتجاوز حدود القبيلة والطائفة والجغرافية. وفي هذا السياق، فهنالك تجارب غنية للعمل النقابي، وليس هنالك شك في أن المناطق التي شهدت بعض عمليات التحديث بقيام مشاريع صناعية وزراعية كان لها الأثر في احداث نقلة اجتماعية والمساهمة في دفع المجتمع نحو التحديث وبلورة علاقات قائمة على المصالح كقاعدة للتنظيم الاجتماعي في مجتمع مفتوح. ويمكن هنا الحديث عن تجارب مشروع الجزيرة ومؤسسة حلفا الزراعية ومصانع السكر المختلفة بالاضافة للخدمة المدنية في مرحلة ما من تاريخ السودان.
وفي هذا السياق سيأتي تعليقي على قيام الجمعية العمومية لنقابات اطباء السوان. في البدء لابد من الاشادة بالجهد الكبير الذي بُذل بواسطة جنود كُثر للوصول إلى هذه المرحلة وهذا أمر ايجابي بلا مواربة، وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنه حتى و إن قامت النقابة وفق التصورات القديمة واصبحت جسماً مدنياً فعّالاً، فهذا ليس سدرة منتهى التغيير، بل أن ذلك سيكون نطفة صغيرة في بحر الانتقال الاجتماعي العريض. قولي هذا ليس القصد منه ثبيط للهمم، بل لفتح الاشرعة على الاسئلة الكبرى التي يجب ان لا تغيب عن اعيننا، أتفهم مدى حبور الناس واحتفائهم بهذه الخطوة لانها نقطة ضوء في عتمة سياسية واجتماعية وفي ظل حالة الوهدة العامة. سأُجْمل ملاحظاتي حول هذا الأمر في ثلاث نقاط اساسية يمكن أن يتفرّع من كل نقطة نقاشٌ ومقالات وحوارات.
أولا، اعتقد أن مفهوم النقابة في الفكر السياسي والمخيال الاجتماعي السوداني، مازال به خلط بين فكرة النقابة التي تقوم على اساس المصلحة التي تشمل مهاماً مثل تعريف واعادة تعريف حقوق الاعضاء والدفاع عن مصالحهم، بما في ذلك شروط ممارسة المهنة، وبين فكرة الجسم الاداري المنوط به تنظيم ممارسة المهنة وتعليمها وتطويرها. اعتقد أن قيام نقابة لاطباء السودان، ما زال يتحرك (عند البعض) في فضاء تصورات خمسينيات القرن الماضي التي تعتقد أن اي طبيب بالضرورة له مصلحة في قيام نقابة، وأن النقابة ستكون ذراعا وبوقا سياسيا اكثر من أن تكون هي الوعاء القائم على الدفاع عن مصالح الاعضاء من الاطباء. الفرق بين المفهومين فلسفي وعملي وله تأثيرات عميقة ولا أعتقد انه غاب عن اذهان من بذلوا كل هذا الجهد للوصول إلى هذه المرحلة. الثابت في كلا الحالين هو أنه، بلا محالة سيتم التنافس للسيطرة على النقابة سياسيا، وسيسعى جٌل الفاعلون الاجتماعيون لتوظيف النقابة لتحقيق اهداف سياسية وهذا أمر طبيعي لأن قضايا الحقوق هي قضايا سياسية بامتياز. غير الطبيعي هو حينما يتم تجيير مصالح الاعضاء لخدمة اهداف سياسية تتجاوز وتتجاهل مصالح الاعضاء. ومن هنا يمكن طرح السؤال الموضوعي ما هي المصلحة التي تجمع كل اطباء السودان، في الريف والحضر، في القطاع الخاص والحكومي، الملاك والموظفين، لينخرطوا في جسم نقابي واحد يسمى نقابة اطباء السودان؟ التصورات القديمة للنقابة والمصحوبة بنوستالجيا سياسية مستمدة من ذكريات اكتوبر وابريل ودور النقابات المعهود في مقاومة الدكتاتوريات هي تصورات قاصرة عن استيعاب التحولات الكبيرة التي حدثت في القطاع الصحي. القصد هنا ليس نقد الجهد والتقليل من قدره، بل للتنويه أنه لا يمكن أن تكون مصلحة طبيب مثل مامون حميدة، هي نفس مصلحة الطبيب حسن الزاكي الذي يعمل طبيبا عموميا في مركز ريفي الدبة، وعليه، فإن الاسئلة التي يجب أن نتدبر فيها سويا هي: هل اساس التنظيم في هذه الحالة هو فكرة ان كليهما دارس كلية للطب والجراحة ويمارس المهنة؟ وهل ممارسة المهنة بغض النظر عن السياق المؤسساتي (قطاع عام او خاص، ريف او حضر) تصلح كأساس لتعريف المصالح؟، الاجابة على هذه الاسئلة ستفسر أن النقابة القائمة على التصورات القديمة ربما لن تتوفق في شمل الغالبية العظمى من الأطباء لانها ببساطة تقوم على اساس مخيال اجتماعي مفارق لضرورة الشرط المادي الماثل على الارض.
ثانيا، اعتقد أن فكرة قيام نقابة الاطباء بالتصور الذي اسهبت فيه في عاليه، مازال يحمل نفس التصورات المركزية للدولة السودانية التي اوردتنا موارد التهميش والتنمية غير المتوازنة اللذين اصبحا حجة لكل من يرغب في حمل السلاح وكأنما السلاح غاية في حد ذاته وليس مجرد وسيلة للاحتجاج. أهي نقابة مركزية مقرّها الخرطوم تشرف على دار للاطباء بنفس التصورات المخملية القديمة؟ هذا مع أنني من الذين كانوا يجدون العديد من وجبات العشاء المجانية في الاعراس التي كانت تقام في دار الاطباء إبان دراستي الجامعية حين كنا نسكن في داخلية تهراقا، وهنا لابد لي من شكر الاطباء على هذه الدار ولكن يبقى السؤال قائم.
ثالثا، بغض النظر عن التصور الذي ستقوم عليه نقابة الاطباء وبقية النقابات، فغالبا ستظل النقابات مرتعا للتنافس السياسي من اجل استغلالها كأذرع وأبواق سياسية، وهذه تركة مقاومة الشمولية، إلا أن التنافس السياسي هذا يجب أن لا يتم على حساب الدور المؤسساتي للنقابة، فيمكن لتيار سياسي معين أن يسيطر على قيادة النقابة ولكن سيكون من المهم أن تظل النقابة تقوم بأهدافها الجوهرية في خدمة مصالح الاعضاء والتمسك بذلك كعقيدة منظِمة للاستدامة. الأهم في كل ذلك أن قيام النقابات هو محض نطفة في بحر عمليات التحديث التي تنتظر المجتمع السوداني، فقد كتبت من قبل أن جل الوجود الاجتماعي والمادي في السودان هو في اقتصاد الظل او في القطاع غير الرسمي، ورغم شح المعلومات الصحيحة الا أن التقديرات تقول إنه ربما يصل إلى خمسين في المئة من جل النشاط الاقتصادي في البلاد، وهذا قطاع يصعب تنظيمه على اساس المهنة او المصلحة لمدى تعقّد وتداخل شبكات المصالح فيه ولطبيعته غير المنظمة. وفي نفس الاطار شعار “الثورة نقابة ولجنة حي” بقدر ما هو محفز للتنظيم الا أنه قاصر في تعريف مفهوم التنظيم في سياق الواقع السيسيولوجي الحالي الذي اساسه الريف والانتماءات الاولية ونشاط اقتصادي غير منظم.
خلاصة القول إنه يحق للجميع الاحتفاء بقيام الجمعية العمومية للجنة التمهيدية لنقابة الاطباء خصوصا في ظل حالة العجز السياسي والمراوحة الفكرية الحالية، لكن يجب أن يكون هذا الاحتفاء مشوبا بالحذر فالطريق طويل وعملية تحديث المجتمع تتطلب اعادة تعريف مفهوم العمل النقابي بفهم وتشريح التجارب السابقة (وليس باستنساخها) بما يتماشى مع التطورات التي حدثت في المجتمع السوداني. عملية التحديث القائمة على اساس تعريف واعادة تعريف مفهوم المصلحة في حد ذاته أمر لابد منه وهذا جوهر فكرة الممارسة السياسية للفاعلين الاجتماعيين، وهذا يتطلب التفكير فيما هو أبعد من الأطر النقابية التقليدية للانفتاح على القطاعات التي يصعب تنظيمها على اساس مهنة ومصلحة محددة ومعرِّفة.
16 مارس 2023
المصدر: صحيفة التغيير