العدالة الانتقالية من أجل الإطاري
العدالة الانتقالية من أجل الإطاري
محمد بدوي
حرضني مقال توضيحي من الصديق المحامي عمرو كمال، حمل اعتذاره عن المشاركة في الجلسة الرئيسية لورشة العدالة الانتقالية بالخرطوم، والتي يشرف عليها التحالف المدني للعدالة الانتقالية، وجاء اعتذار الأستاذ/ عمرو مسنوداً بالاعتراض الفلسفي على عنوان الورشة التي تأتي في نطاق الورش التي خطط لها لإكمال الاتفاق الإطاري “العدالة العدالة الانتقالية” باعتبار أن هذا الفصل يرسخ لخلل منهجي في مفهوم العدالة الانتقالية.
قبل الخوض لابد من الإشارة إلى أن مسألة العدالة الانتقالية بذلت فيها جهود واسعة قبل انقلاب 25 اكتوبر 2021، وساد النقاشات مرتكزة على عدة زوايا منها العدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية بين المجموعات المنخرطة آنذاك بهدف بلورة رؤى تفضي أو تعبد الطريق إلى نسخة قانون العدالة الانتقالية، استمرار التباينات انتهى بتدخل رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك لكن لم يفض الاشتباك في الحالة ثم باغت المشهد الانقلاب ليكمل حالة الجمود.
هنالك تصورات لدى البعض “قد تجد التبرير” تضع العدالة الانتقالية في صورة العدالة العرفية التي تنتهي بالصلح أو المقاصة المالية للخسائر أو تلك التي تغيب عنها العدالة الجنائية، وهذه التصورات لم تأتِ من فراغ فغياب العدالة وحالات تحول الضحايا والمجني عليهم، إلى جانب السجل الواسع للانتهاكات خلال فترتي الحركة الإسلامية السودانية، وعقب سقوطها حتى انقلاب اكتوبر 2021 جديرة بنسف أي تصورات وثقة لمفهوم العدالة الجنائية ناهيك الحديث عن العدالة الانتقالية كحزم تتطلب مناخاً وشروطاً منها الإصلاح المؤسسي، أضف إلى ذلك تدخل المحكمة الجنائية الدولية ورفع سقف التوقعات بأن المهمة آلت للعدالة التكميلية، وهنا مربط الفرس الذي أشار إليه الأستاذ/ عمرو أنه يجب التعامل مع الحالة وفق نطاقها الفلسفي وهو التزيد الذي جنح إلى محاولة تحفيز قبول المشاركة لتصب في عجلة الاتفاق الإطاري لتلحق بسقفها الزمني المضروب للتوقيع النهائي أو تشكيل حكومة تنفيذية.
هذه الاختلالات قد تفرز نتائج سالبة، لأنها تعيد طرح وإثارة أسئلة ذات أثر على مستقبل مفهوم وتطبيق العدالة الانتقالية كحزم مهمة لتعزيز الانتقال إلى الدولة المدنية، على سبيل المثال في حالة إقليم النيل الأزرق السؤال الذي لن تجيب عليه الورشة بعنوانها المضاف إليه العدالة أو بدونه، هو غياب تحالف الحرية والتغيير عن زيارة الإقليم إبان أحداث يونيو وأكتوبر 2022 التي راح ضحيتها المئات من المدنيين، إضافة إلى غياب جهود التحقيق في أحداث اكتوبر 2022 فقد كشف التحقيق في أحداث بليل 2022 بجنوب دارفور بأن التحقيق كحق ممكن، وهذا يقود إلى سؤال جوهري آخر ما هي رؤية الورش هل هي لبلورة رؤية لنسخة العدالة الانتقالية أم لتثقيف حولها؟.
من زاوية ثانية حملت وسائل الإعلام تصريحاً برفض مشاركة النازحين واللاجئين بإقليم دارفور وفقاً للتصريح الصادر في 12 مارس 2023، المفارقة أنه ذات اليوم الذي ظهر فيه الرئيس السابق المخلوع المطلوب من المحكمة الجنائية في إذن خارج محبسه العلاجي لتلقي واجب العزاء في أحد أشقائه، رغم اتفاقي مع حقوق السجين في الإذن، وعدم الركون للتشفي لكن مقابل ممارسة تلك الحقوق يجب تقصي الحصافة التي تجعل السماح له بالتمتع بذلك تأثيراً نفسياً على ضحاياه وعلى زعزعة الثقة في العدالة على خلفيات عدم تسليمه إلى الجنائية، في تقديري أنه سبب جوهري للمنسقية لتحمل رفض المشاركة.
بالنظر إلى سياق تجربة ما قبل انقلاب اكتوبر 2021 يشير الحال إلى بداية عملية لتبلور أولي لنسخة العدالة الانتقالية، بدايتها التواريخ التي شكل فيها النائب العام السابق مولانا تاج السر علي الحبر عدة لجان للتحقيق في أحداث مختلفة خلاف فترة حكم الحركة الإسلامية، الخطوة الثانية جاءت ممثلة في إجازة قانون لجنة محاربة الفساد وتفكيك نظام الـ30 من يونيو 1989، لأن اللجان واللجنة كليهما ضمن نطاق مفهوم العدالة الانتقالية وعناصره.
تعثرت الحالة بعد الاتفاق حول مسودة قانون الانتقالية، وغابت اللحظة التاريخية التي كانت يمكن أن تمثل اللحظة المناسبة لانطلاق التثقيف بمفهوم العدالة الانتقالية وهي خطوة عملية تجاه العدالة الدولية، كما أن تراجع التحقيقات ولاسيما بشكل كبير عقب استقالة مولانا الحبر فصار المشهد قاتماً وانسداد في أفق وسبل الوصول لمسار العدالة الوطنية والتكميلية “الدولية” معاً.
أخيراً: الرؤية والتخطيط الاستراتيجي مهمتان لأنه مسألة العدالة الانتقالية مرتبطة بأهمية بلورة نسخة وطنية وفقاً للحالة والواقع والسجل، ولارتباطه بهدف الإصلاح المؤسسي كضامن للتحول المدني، لكن توهان الحالة بين التثقيف المدني الذي هو مطلوب لكن لا يمكن إنجاز ذلك في اسبوع واحد في كل البلاد وبين المطلوبات الرئيسية من المسودة ثم القانون والواجب الفني لصياغة المسودة عبر هيئة منتخبة وإن لم يكن بالإمكان عبر لجنة شخصيات تمثل كافة القضايا التخصصية هي مسار النظر الراجح، أما ربط الحالة بالسياق السياسي لإكمال مطلوبات الإطاري لن ينتج منها ما يوازي قامة الحالة.
المصدر: صحيفة التغيير