اخبار المغرب

الإسلاميون والعقل الطفولي

أخذ على عاتقه هذا الفكر الذي أصله مشرقي المنشأ والحرفة، لكنه بقي عاجزا على تقديم صيغة مغربية مختلفة عن الشرق، فالمدرسة الاخوانية هي امتداد روحي الى المدرسة الام التي تبنى الفكرة الإصلاحية وتجديد العقل الإسلامي بعد توقف الاجتهاد وضموره.

ولذلك ميزة العقل الطفولي انه يبقى حبيس اللحظة والتاريخ والفكرة، وينتعش في الازمات، ولذلك العقل الاخواني هو بكل دقة طفولي المنشأ لأنه لم يستطع ان يباشر تجديد مدركاته وقراءته للواقع بكل شمولية ،مما جعله يسقط في الانتقائية والتقليد وبقي بدون مشروع ،وكان يظن انه تحت رحمة التسيد والضغط وهاته المبررات جعلته لا ينتج بقدر ما يعيد انتاج ما انتجه السابقون ، لكن بعناوين مختلفة وأفكار اقل ما يمكن ان يقال عنها انها تصارع لتبقى حية.

فما طرحه الأنصاري مثلا من مقدمات في تجديد العقل الروحي الاخواني دليل على ازمة كبيرة عاشتها هاته البنية الفكرية والروحية في متم العشرية الأولى لهذا القرن
وهذا ما تحدث عنه المسيري حينما شخص حالة العقل العربي بصفة عامة والاخواني بصفة خاصة .
وإن النقل الفوتوغرافي أمر مستحيل، إذ يقوم العقل حتما بعمليات حذف وإبقاء وتضخيم وتهميش، ومن ثم نجد أن الفكر الغربي الذي يطرح نفسه بحسبانه فكرا موضوعيا ، هو في واقع الأمر فكر يخبئ مفاهيم محددة (وإلا لما كان فكرا ولأصبح مجرد أفكار).

وكنا نحسب ان تجربة الوحدة امر عظيم الشأن وهذا ما نظر اليها أساتذة الدعوة والعمل الإسلامي، لكنها لم تكن سوى ذوبان في منهج اقرب منه للحداثة وغارق في الشهوات وبعيد عن المدركات الروحية التي نشأ عليها الجناح الآخر .

ب. العقلية السلبية إلى العقلية التوليدية

ان اصل الفتنة في اننا لم نستطع الحسم في اختياراتنا الأولى ،هل نصبر على هذا الجناح الى ان يصلح امره ام نقطف ريشه ريشة ريشة ،ولان السلبية التي انتجتها عقلية التغافل والصبر على الأذى جعلت من التيار الصامت يخرج من هول الصمت الى المسارعة والمجاهرة ،وهذا أمر قدمه الانصاري في مجموعة من الكتب التي أسست لتيار جديد من الموضوعية الاجتهادية التي تفتح آفاق الإبداع أمام العقل الإسلامي ، وتعلي من شأنه، فلا يعد صفحة بيضاء تتلقى معطيات الواقع، وتكتفي بتصنيفها وتسجيلها فقط، بل هو عقل مبدع، كما يسميه المسيري عقلا “توليديا”
وفكرة العقل التوليدي فكرة أساسية في المنظومة الإسلامية، فالإنسان يولد على الفطرة، أي عنده مقدرات داخلية على الخير.

لكن تأثيرها بالغ الخطورة على المستوى الأبستمولوجي: عقل الإنسان “ليس مجرد مخ مادي: صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات المادية، وإنما هو عقل له مقدرة توليدية، كما أنه مستقر كثير من الخبرات والمنظومات الأخلاقية والرمزية، ومستودع كثير من الذكريات والصور المخزونة في الوعي واللاوعي.

ج. من الرصد المباشر إلى تبني النموذج منهجا للتحليل

عندما يصدر الإنسان في سلوكاته وأفعاله عن عقل توليدي مبدع، فهذا يعني أنه ينفتح على احتمالات متعددة ولانهائية، وعلى المستوى الأبستمولوجيا يطرح هذا الأمر إشكالا منهجيا كبيرا: يتعلق الأمر بالثبات المنهجي للدارس: فهل يسلك كل باحث على هواه، ويتبع دفة عقله “المبدع” تقوده أنَّى شاءت وأرادت؟ أم أن هناك وجهة ما تقود بحثنا وتوجهه؟

ثم، كيف يتعامل مع الظواهر الإنسانية المتغيرة تبعا “لشطحات” عقله المبدع؟ ألا تقتضي مناهج البحث الموحدة قدرا من ثبات وتشابه الظواهر المدروسة حتى نستطيع تعميم النتائج؟

خصوصا وأن الإنسان كما يراه المسيري، لا يختزل في بعده المادي فقط، أو يسوى بظواهر الطبيعة ويصير جزءا مصمتا منها، بل هو أكثر مخلوقات الله تعقيدا وتركيبا؛ وهكذا فهو “لا يسلك كرد فعل للواقع المادي بشكل مباشر، وإنما كرد فعل للواقع كما يدركه هو بكل تركيبيته، ومن خلال ما يسقطه على الواقع من أفراح وأتراح، وأشواق ومعان، أو رموز وذكريات، وأطماع وأحقاد، ونوايا خيرة و شريرة، ومن خلال منظومة من المنظومات الأخلاقية والرمزية والإيديولوجية”.
وأمام تركيبية الظاهرة الإنسانية هذه، ما السبيل إلى دراسة ما يرتبط بها من قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية؟ خصوصا وأن مستوى الثبات السلوكي أو الموضوعي (بالمعنى التقليدي) صغير جدا؟

فهل يدرك اسلاميو العمل السياسي أبعاد هذا المأزق المنهجي الذي هم فيه؟
طبعا، منهم من يقره ويدرك أبعاده، بل أكثر من ذلك… منهم من يقترح له مخرجا؛ حيث تجد بعض الكلمات أو المداخلات هنا وهناك تتحدث عن ازمة منهج أو نموذج وهذا راجع لان رؤيتنا لا تستجيب للواقع المادي مباشرة وإنما تنحصر في نظرة ضيقة لا تحيط يحيط بأبعاد الاشكال (سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية) .
وهنا نحن بحاجة الى تفكيك خطاب الاسلاموية السياسية بأسلوب عميق من التحليل، ولا يقوم على المقولات الانطباعية الغارقة في الشعبوية والصور المستنسخة .
نحن بحاجة الى فهم الصور الإدراكية، لتمثلاتنا القيمية المجتمعية وليست الاسلاموية التي هي غارقة في الشهونية والطفولية أو بلغة من نبع مافكر لها وخاصة عند المسيري الذي يعد من الحداثية الاسلاموية المشرقية والغربية الذي جمع بين نسقين في فكر هو اقرب للحداثة منه للسلفية السياسية .

يشرح المسيري الصور الإدراكية على النحو التالي: “هذه المقولات والصور تشكل خريطة يحملها الإنسان في عقله، ويتصور أن عناصرها وعلاقات هذه العناصر بعضها ببعض تشكل عناصر الواقع وعناصره، وهذه هي الخريطة الإدراكية. وهذه الخرائط الإدراكية التي يحملها الإنسان في عقله ووجدانه تحدد ما يمكنه أن يراه في هذا الواقع الخام، فهي تستبعد وتهمش بعض التفاصيل فلا يراها، وتؤكد البعض الآخر بحيث يراها مهمة ومركزية”.

وأفضل وسيلة بحثية للتعامل من هذه الخرائط الإدراكية، واستخراجها، وقراءتها أو تأويلها هو النموذج. “والنموذج هو بنية تصورية يجردها عقل الإنسان من كَمّ هائل من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، فهو يستبعد بعضها باعتبارها غير دالة (من وجهة نظره( ويستبقي البعض الآخر، ثم يربط بينها وينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح (حسب تصوره) مترابطة، ومماثلة في ترابطها للعلاقات الموجودة بين عناصر الواقع.

ولذلك أرى ان مرحلة مابعد الصدمة السياسية بالمغرب هو الاعتكاف على إعادة فهم العقل الاسلاموي الذي دجن في نسق سياسي مقدم دون ادراك،أي ان الاسلامويين بالمغرب لم يكونوا يفكرون بل كان يفكر لهم أي ان خطوط الطول والعرض في السياسة تقاس بوثيرة لا يمكن تجاوز خطوطها لأن الاسلاموي دخل من نسق بعيد وغريب ورداء فصل له ولم يقدم انموذجه كما قدمه اليسار بالمغرب مثلا.

وهذا يعني أن عقل الاسلاموي خامل، يتلقى الواقع بشكل سلبي ويسجله بشكل مباشر، وليس مبدع وخلاق، يعيد صياغة الواقع من خلال النماذج المعرفية والإدراكية أثناء أبسط عمليات الإدراك.

كما أن “النموذج التفسيري” نظم رؤيته للغرب وحضارته، ليبدع نموذجا تفسيريا آخر أطلق عليه “مسلسل التحديث والعلمنة”، من خلال اعتماد مفهوم جديد للعلمانية،واخشى ماخشى ان تكون نتائج الاسلاموية السياسية بالمغرب هو مأسسة لنسق سماه المسيري بعلمنة التدين او المتدينون العلمانيون

إنسانية الإنسان ومادية الأشياء:

كنا في الجامعة ننافح على فكر المسيري ظانني انه هو المبشر الجديد والواقع ان فكره معزول عن واقعنا ولاننا لانفكر بل فقط نغش في التفكير ونصطدم مع الواقع لننا لانرى بأعيننا بل بأعين غيرنا ولذلك حصل الذي حصل ووقع الذي وقع .

ولذلك تجد كثير من المصطلحات في خطابنا التحليلي ، نقوم بترجمتها دون إدراك للمفاهيم الكامنة وراءها، وبدون إدراك مرجعيتها النهائية وبُعدها المعرفي (الكلي والنهائي، وصورة الإنسان الكامنة وراءها، هل هو مادة وحسب، أم مادة وشيء آخر متجاوز للمادة؟

فنتحدث عن “وحدة العلوم” و”الاغتراب” وعن “الطبيعة” و”العقل” و”القيم الأخلاقية” دون أن نعرف مرجعية هذه المصطلحات. كما نفعل نفس الشيء مع كثير من النصوص الفلسفية والاجتماعية والدينية، مع أن المعنى الحقيقي لهذه المصطلحات والنصوص لا يتضح إلا من خلال تحديد أبعادها المعرفية ومرجعيتها النهائية، وهل هي مرجعية مادية محضة أم مرجعية مادية وغير مادية؟

ونحن إن فعلنا ذلك فسنكتشف أن مصطلحاً شائعاً مثل “العقل” إذا كانت مرجعيته مادية فسيعني شيئاً مختلفاً تماماً عما إذا كانت مرجعيته مادية وغير مادية فى ذات الوقت.

لايظن اسلاميو المغرب انهم قد وفقوا في تجربة دامت عقد من الزمن السياسي ،او انهم اجابوا على تساؤلات المغاربة في تنمية وامن وتسيير للشأن العام ،بل انهم غرقوا في خلافات وشهوات وطموحات شخصية سرعان ماتبخرت احلامهم وامالهم ووعودهم في لحظة ،وانهار السقف على من اشتهت انفسهم كراسي المسؤولية والتسيير والقرار.

ان العقل الإسلامي لايمكن اختزاله في تجربة سياسية لفصيل معين ،بل سيكون من الصعب ان نحكم عليه بالجمود والموت وهو مازالا في طفوليته يتعلم وينمو بشكل غير سوي ،بسبب سرعة الواقع وتغير الأفكار وتكاثر المصائب والفتن ظاهرها وباطنها.

اننا بحاجة الى نقدذاتي جديد يرخي ظلاله لمعرفة حالنا وقدرتنا على التغيير ،فلا الشيخ السياسي المرابط في ركنه قادر على اخراج هذا الضمور الذي وقعت فيه هاته الفئة ،ولا الصمت المطبق على افواه ماتبقى من الشيخ الروحي قادرة على التغيير ،بل يجب إعادة النظر في المفاهيم والاحكام المسبقة وإعادة الاحتكام الى العقل الواعي وليست العاطفة الطفولية الانطباعية والشهوانية .

حينها يمكن ان نتذكر ان ماتركه العظام لا ندرسه بل يروى لنا في قصائد او احاجي دون تقليب او دراية او منهج ،ولذلك فتراثنا الفكر بحاجة الى الغربلة والفهم والدراسة الواعية ،حتى يتذكر من يتذكر ان العقل واعي في اللحظة وغائب على التفكير والدراسة ،بل هو الان أداة نقل لخبر وتخزينه في لا وعييه .دون مسؤولية او التزام .ولذلك اتسم العقل العربي بطفولية غير مكتملة بحاجة الى نضج وبناء.

العقل الإسلامي والظواهر الصوتية

امام هذا التعاظم لوسائل التواصل الرقمي ،تعطل العقل الواعي في تحليل حزمة من الأصوات المدججة بشتى من الافكارالتقليدية المقلدة والتي هي جزء من تاريخ ماض بائد،وقد أدى هذا الاستحضار لهذه القضايا نوع من الالهاء للعامة وللخاصة وحتى خاصة الخاصة والتي كان معول عليها التجديد ،لكن وانت تشاهد وتنصت لما يقولون تصير تطرح العديد من الأسئلة المتعلقة بماهية تنامي هاته الظاهرة .

هل ان الحاجة الى إجابات سريعة بطريقة سريعة يمكن ان تختزل واقعنا المعاش ،وتعطي صورة عن هذا الواقع المتناقض .

وهل هاته الظواهر الصوتية المؤثرة في الفضاء الاجتماعي الرقمي لاتؤسس لمنهج او رؤية بل هي ضمادات جراح مؤقتة.

ان العقل الطفولي لاينتج الا السطحية والانطباعية والصدام والصراعات الفارغة المتنازعة فيما بينها .

ولذلك حتى لا نقع في الذاتية ونقصف جهة بعينها فان هاته الظاهرة ستتنامى لتسيطر على العقول وتصبح متحكمة ولا تستطيع الخروج منها .

ان المعول عليه هو الوقوف الحكيم والفاهم للواقع والاستفسار على هذا الوضع وليس الصمت او التغافل القدري السلبي.

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *