الرواية الجزائرية.. أزمة الفضاء
هناك ظاهرة غريبة باتت تتخبط فيها الرواية الجزائرية، حيث نلاحظ فقرا رهيبا في تأثيث المكان والاسمية، وأصبحت رواية مفرغة المحتوى من أي انتماء، إنها في الغالب رواية هجينة وممسوخة جماليا وموضوعاتيا، أصابتها معضلة خطيرة، استشرى في داخلها مرض الآخر اليهودي والمسيحي، حيث أصبحت تيمة الآخر غريبة ومقحمة بشكل مزعج، وعلى قدر من الاسترضاء الرخيص لدوائر غير وطنية.
إنني مصدوم من تلك النصوص الروائية التي أسميها نصوص التَّرضية، أو على الأقل يمكنني أن أستعير من”محمد أركون” تعبيره الجميل القبيح حين يتحدث عن المجال المتوسطي والتضامن الذي كان يعيشه هذا الفضاء يمكن أن أسمي تلك النصوص بخصوص التَّضامن.. لكن مع من؟ وتحت أي ظرف وطرف؟ تلك النصوص المسمومة التي تقتات على الهامشي والبشع.. تستحلب من نفس الإناء الكولونيالي حين كان ينظر إلى الإفريقي أنه وحشي وغريب. نعم إنما عملية تحليلية للتضامن حين يصبح اليهودي ناعما والمسيحي بهي الطلعة لا يبقى إلا مشهد العصافير التي تزقزق في السماء.
الرواية التي باتت متخمة بالأسماء والأماكن التي ليس لها علاقة بجزائريتنا ولا بهويتنا الاسمية والمكانية.. أشعر بالانزعاج حين تخرط الرواية الوطنية في تبييض ناعم لصورة اليهودي. وتسفيه وتزييف منحرف التفاصيل حين تتعرض لصورة المواطن والوطن.فيصبح الوطن مكانا للتمثيل واللعب الحر على التسامح المتغطرس والمشبع بالخيانة وبيع الذم.. تلك المصيبة السردية لم يغرق فيها كتاب كبار فحسب، بل حتى شباب بدؤوا للتو فك خط الرواية.نجد أن نصوصهم تعج بآلاف الأسماء والأماكن التي لا علاقة لها بالفضاء الجزائري..نصوص غريبة وهجينة تُغيِّب جماليات الفضاء الجزائري، أن تقرأ لكاتب يكتب عن مدينة بانكوك أو بوسطن أو باريس ليناقش قضايا جوهرية في قرى ومداشر الجزائر، هذا اللعب السردي سينتج مسخا غريبا مشوها لشكل الرواية و للقيمة ورمزيات الوطن.. هنا نطرح بعمق سؤال علاقة السردي بالالتزام بأسماء الأماكن والوسائل والأجساد و.. و؟
والغريب أن معظم الكتاب الدين نقرأ نصوصهم كانوا يساريين بالأمس لطالما سمعنا لهم محاضرات عن النضال الوطني بالكلمة الحرة المسؤولة، بل لطالما سمعنا قولهم أن الكتابة هي نضال دائم ضد أشكال الرأسمالية والامبريالية ولكنهم يقعون في حضنها بقصد أم بغيره .. إن السؤال الذي أطرحه عليهم أين أسماء الأماكن والأشخاص والعادات والتقاليد الجزائرية من نصوصكم؟ هؤلاء الذين وسموا رواية التسعينيات أنها رواية أزمة صاروا هو أنفسهم أزمة في عنق الرواية الجزائرية، على الأقل رواية الأزمة استطاعت أن تنقل الموت الجزائري أما هم بتلك النصوص ذابوا في العلمانية الجديدة بل أصبحوا كائنات معلمنة ومسلعنة لصالح الإمبريالية الجديدة.
إنني أريد من هذا المانفيسو أن أرافع عن حق الفضاء الجزائري أن يتكلم عن نفسه داخل المتن الذي عافه لصالح قضايا خارجية صغيرة، ولم تزد في إجراءات الكتاب سوى تعاسة المتن السرد الجزائري.. كيف يمكننا أن نصالح الروائي الجزائري مع الفضاء الثقافي الذي يبتعد عنه مع كل تجربة؟
كلما تعمقت جيدا في النصوص وجدت أن غياب الدليل المرجعي هو السبب الأساس الذي جعل الكتابة الإبداعية تنتقل بين الثقافات المختلفة للبحث عن مرجعية تتعلق داخله.. إنني لا أتحدث عن نصوص صغار الكتبة بل نصوص كبار روائيينا الذين أصبحت تيماتها الغريبة والمستهجنة أصلا في خطية الدال الذي يعيش حيرة عميقة في نصوصهم.. كيف نحتمي من حالة الفراغ الثقافي إذا كان هؤلاء لا حيرة لهم على الفضاء الأسماء والأماكن..
هل يمكن أن نجد مسوغا أمام الأجيال القادمة حين يقرؤون تلك الأسماء المسمومة في نصوص كتابنا كم أشعر بالطمأنينة حين أقرأ “اللاز” للطاهر وطار أو “مالا تذروه الرياح” عبد العالي عرعار، أو حين اقرأ نص “ابن الفقير” لمولود فرعون أو “الهضبة المنسية” لمولود معمري. لماذا حدثت القطيعة مع الفضاء الجزائري بهذا الشكل المريع والغريب؟.. إنني لا أطلق أحكاما بقدر ما أحاول أن أقرر ظاهرة أدبية. قد يقول أي روائي أن نصوصي بريئة من هذه التهمة ولكن فعل الإدانة موجود، والظاهرة معروضة في شقوق الكتابة، وطالما تحدثنا حولها مع نخبة من الكتاب في وطننا.
يبدو لي أن أسباب الأزمة تعود إلى مجموعة من النقاط:
أن القطيعة مع المجتمع الاشتراكي والنقلة إلى اقتصاد السوق حرك الرأسمالية التي جعلت الفرد يعيش أوهام البورجوازية ويفقد من ثمة السيطرة على المكان.. قوة الفكرة الديمقراطية جعلت الفرد يتحرر من ملكية المشاع الجماعي لينفرد ببناء يوتوبيا خارج المكان. يحلم بعيدا عن الاسم والفضاء.
القطيعة الثانية التي جعلت الجزائري ينفصل عن مرجعيته المكانية؛ إن السلطة التي تملك حق ترسيخ الفضاء بالقوة تبدلت أحوالها وصارت جزءا في عالم يموج بالسلط المختلفة، فانفتاح الجزائري على مرجعيات متعددة، جعل رمزية الفضاء تسقط نتيجة صراع المرجعيات وعدم وجود ضامن للمرجعية الوطنية. هذا البعد يتوضح بشكل جدي في أشكال المثقفين الممتهنين للرواية.
المسألة الثالثة؛ انزياح الرواية من الفضاء الذي يتعلق بمركزية العاصمة إلى المدن الداخلية جعل الكاتب في المدن الداخلية يبحث عن تنفيس للفضاء المغلق في عنق الفضاءات الكونية كنوع من أنواع عقاب الفضاء المحلي الذي جعله يعيش وهم المساواة وتوزيع الثروة.لينقم الكاتب على لغة الزيف بالارتكاس على الفضاء كشكل عقابي لمركز العاصمي.
لعل تلك المسائل في تصوري لا تكفي لنتأمل أزمة الفضاء في الراوية الجزائرية ولعل هذا التعميم المخل يجعلني انتبه أن الرواية الصحراوية التي يكتبها الزيواني لا علاقة لها بالإشكالية المطروحة، لأنها رواية لم تعش ضغوط الشمال.. فهي رواية موغلة في الأصالة والعمق ومشبعة بالمكان بشكل أعاد الرواية الجزائرية إلى موضوعها ووجودها الأدبي دون الوقوع في خطر الاستيلاف للفضاءات الأخرى.