المعلم الذي وضع الشاطبي على سكة المقاصد
الإمام محمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن القرشي التلمساني، شهر بالمقري، ولد بتلمسان وبها نشأ وقرأ، له مؤلفات عديدة منها ”القواعد” في الفقه والأصول والمقاصد، ومنها ”عمل من طب لمن حب” وهو كتاب جليل، و”الحقائق والرقائق” في التصوف، توفي رحمه الله سنة 758هـ.
إن الإمام المقري بكتابه القواعد، قد ساهم مساهمة فعّالة في تطوير علم المقاصد مادة ومنهجا. فمن حيث مادته، جعلها أوسع مما كانت عليه، لتضم بذلك الغايات والوسائل، وتشمل جميع المعاني المتصلة بالأعمال والسلوك. أما من حيث المنهج، فيمكن حصر ما حققه في أمرين:
1 قام بتأسيس بعض المبادئ الكلية لعلم المقاصد، وذلك انطلاقا من عمله بمنهج الاستقراء للفروع والأعمال الفقهية في المذهب المالكي بصفة خاصة والمذاهب الأخرى بصفة عامة، ويؤكد هذا الجانب الفاضل ابن عاشور فيقول: ”أما كتابه الفقهي، فهو كتاب ”القواعد”، وهو كتاب عجيب الاختراع، بعيد المنزع، قصد فيه إلى استخلاص المبادئ الكلية التي أقيمت على النظريات الفقهية في كل باب من أبواب الفقه، وأثبت ما في تطبيق تلك المبادئ على جزئياتها، من اختلاف الأقطار، فقارنه مقارنة حكيمة في نطاق القواعد بين فروع المذاهب الأربعة، وكان بذلك مبتكرا طريقة جديدة في خدمة الفقه، هي خلاصة نظره الاجتهادي، وعمله النقدي لأقوال الفقهاء، وتصاوير مسائل الفقه”.
2 صياغة تلك المبادئ التي استخلصها من استقراءاته الفقهية والأصولية في شكل قواعد، يؤسس منها وعليها فيما بعد علم المقاصد على يدي تلميذه الإمام الشاطبي، وهذا الذي قصده الفاضل ابن عاشور عندما قال: ”وعلى ذلك المنهج الاجتهادي العالي كان تأسيس السلم الذي تدرّج فيه أبو إسحاق الشاطبي حتى انتهى إلى عوالي القواعد القطعية”.
وبهذا العمل يعدّ المقري، في نظري، نقطة انعطاف هامة بعد عز الدين بن عبد السلام، تنقل مقاصد الشريعة من مرحلة الأفكار المتناثرة في أبواب أصول الفقه إلى مرحلة بداية تأسيس علم مستقل، وإن كان هو نفسه لم يفصح بذلك، وإنما نتلمّسه من خلال عمله في كتابه الفقهي ”القواعد” الذي ضم بين دفتيه نحو 1200 قاعدة. وقد تتبّعت كتابه ”القواعد” فاستخرجتُ منه إحدى وثلاثين قاعدة كلية في علم المقاصد، وهي تتوزّع على ثلاثة محاور رئيسة هي:
المحور الأول: يدور موضوع قواعده حول المقاصد وأصولها ووسائلها، ويضم أربع عشرة قاعدة.
المحور الثاني: يدور موضوع قواعده حول جلب المصالح ودرء المفاسد، ويتضمن إحدى عشرة قاعدة.
المحور الثالث: وتدور قواعده حول التيسير ورفع الحرج، وعددها ست قواعد.
وإلى جانب القواعد الكلية المذكورة سابقا، كان المقري يذكر صورا كثيرة من المقاصد الخاصة عند التمثيل بالفروع الفقهية للقواعد التي ذكرها.
وإن المطلع على الكليات والقواعد التي صاغها الإمام المقري يتبيّن له بوضوح تام أن الإمام المقري قد ساهم مساهمة قوية وفعالة في بناء صرح المقاصد، ويتأكد له أن هذا أمر لا ينازع فيه الريسوني ولا غيره ممن حاولوا أن ينكروا مساهمته في بناء علم المقاصد وأثره الكبير في توجيه تلميذه الشاطبي إلى هذا العلم..
*مدير تحرير مجلة ”آفاق الثّقافة والتّراث”