غالباً ما يعتمد البشر على الإشارات غير اللفظية، مثل تعابير الوجه، لتقييم صحة الآخرين. دراسة حديثة كشفت أن النساء يتمتعن بقدرة أكبر على تمييز الوجوه التي تظهر علامات المرض مقارنةً بالرجال، مما يثير تساؤلات حول الأسس البيولوجية والاجتماعية لهذه المهارة.
نُشرت نتائج هذه الدراسة في مجلة “التطور والسلوك البشري” في العشرين من ديسمبر 2025، وأجريت بواسطة فريق بحثي من جامعة ميامي. تأتي هذه النتائج في سياق الاهتمام المتزايد بفهم كيفية إدراك البشر للمرض وتأثير ذلك على سلوكهم الاجتماعي.
قدرة النساء على تمييز الوجوه المريضة تتفوق على الرجال
أظهرت الدراسة أن النساء أكثر حساسية للتغيرات الدقيقة في تعابير الوجه التي تشير إلى المرض، مثل احمرار العينين، تدلي الجفون، وشحوب الشفاه. قام الباحثون بتحليل تقييمات 280 طالبًا جامعيًا – 140 ذكرًا و 140 أنثى – لصور وجوه تعرض حالات صحية ومريضة. استخدم المشاركون مقياسًا لتقييم جوانب مختلفة تتعلق بالمرض، بما في ذلك الحالة الصحية العامة، الشعور بالأمان، وسهولة التواصل.
الأسس البيولوجية والاجتماعية لهذه القدرة
يقترح الباحثون تفسيرين رئيسيين لهذه النتيجة. الأول، “فرضية مقدم الرعاية الأساسي”، تشير إلى أن النساء، تاريخيًا، كنّ أكثر عرضة لتولي مسؤولية رعاية الأطفال والمرضى، مما أدى إلى تطور قدرتهن على اكتشاف علامات المرض مبكرًا. هذه القدرة قد تكون ضرورية لضمان سلامة ورعاية الأفراد الضعفاء.
أما التفسير الثاني، “فرضية تجنب العدوى والملوثات”، فيفترض أن النساء قد طوّرن حساسية أكبر تجاه المرض كآلية للدفاع عن أنفسهن وعائلاتهن من الإصابة. هذا التفسير يتماشى مع فكرة أن تجنب المرض له أهمية خاصة بالنسبة للأفراد الذين يلعبون دورًا حيويًا في الإنجاب ورعاية الأجيال القادمة.
لم يقتصر التقييم على تحديد ما إذا كان الشخص يبدو مريضًا أم لا، بل شمل أيضًا تقييمًا لما إذا كان الشخص يظهر علامات “الإرهاق” أو التعب. أظهرت النتائج أن النساء كنّ أكثر دقة في التمييز بين الوجوه المريضة والوجوه المتعبة، مما يشير إلى أن قدرتهن على اكتشاف المرض تتجاوز مجرد التعرف على الأعراض الجسدية الواضحة.
يجدر بالذكر أن الفرق بين الجنسين في هذه القدرة كان طفيفًا ولكنه ثابت إحصائيًا، مما يعني أنه من غير المرجح أن يكون ناتجًا عن الصدفة. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسة أن هذا الفرق كان موجودًا طوال فترة البحث، مما يعزز من مصداقية النتائج.
تعتبر هذه الدراسة إضافة مهمة إلى فهمنا لكيفية معالجة الدماغ البشري للمعلومات الاجتماعية والصحية. وتسلط الضوء على الدور المحتمل للعوامل البيولوجية والاجتماعية في تشكيل قدراتنا الإدراكية. وتشير الأبحاث السابقة إلى أن الإدراك الحسي، بما في ذلك التعرف على تعابير الوجه، يمكن أن يتأثر بالهرمونات والخبرات الاجتماعية.
تتجاوز أهمية هذه النتائج مجرد فهم كيفية إدراكنا للمرض. فقد يكون لها آثار على مجالات مثل الرعاية الصحية، حيث يمكن أن تساعد في تحسين التواصل بين الأطباء والمرضى، وعلى العلاقات الاجتماعية، حيث يمكن أن تؤثر على كيفية تفاعلنا مع الأشخاص الذين يبدون مريضين. كما أن فهم هذه الآليات قد يساهم في تطوير استراتيجيات جديدة للوقاية من الأمراض والحد من انتشارها.
من المتوقع أن يقوم الباحثون بتوسيع نطاق دراستهم ليشمل مجموعات سكانية أكثر تنوعًا، بما في ذلك الأفراد من مختلف الأعمار والثقافات. كما يخططون لاستكشاف الدور المحتمل للعوامل الوراثية في تحديد هذه القدرة الإدراكية. ستساعد هذه الجهود في توفير صورة أكثر اكتمالاً عن العوامل التي تساهم في قدرة النساء على تمييز الوجوه المريضة.
بالإضافة إلى ذلك، من المهم إجراء المزيد من الأبحاث لفهم الآثار العملية لهذه النتائج. على سبيل المثال، هل يمكن تدريب الأفراد على تحسين قدرتهم على اكتشاف علامات المرض في الوجوه؟ وهل يمكن استخدام هذه المعرفة لتطوير أدوات تشخيصية جديدة؟ تظل هذه الأسئلة مفتوحة وتستحق المزيد من الدراسة.
تعتبر دراسة إدراك المرض مجالًا بحثيًا متناميًا، ومن المتوقع أن نشهد المزيد من الاكتشافات المثيرة في السنوات القادمة. فهم هذه العمليات المعقدة يمكن أن يساعدنا في حماية صحتنا وتحسين رفاهيتنا.
