تاج السر عثمان بابو
١
مضي حوالي شهرين منذ أن عين البرهان د. كامل إدريس رئيسا للوزراء، الذي استهل حديثه بالوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف وتكوين حكومة “تكنوقراط” اي حكومة كفاءات أو خبراء ، لكن سرعان ما اتضح زيف هذا الادعاء، عندما عين العسكر وزيري الدفاع والداخلية، وتدخلت حركات جوبا لتبقى على وزرائها في المالية والمعادن والحكم المحلي، وغيرهم، وتم الابقاء على وزراء اسلاميين مثل : وزيرة الصناعة والاعلام. الخ، وجاء من أقصى المدينة وزير سافر للعدل من المؤتمر الوطني كان مدافعا شرسا عن البشير. عليه عادت حكومة العسكر المتحالفة مع حركات جوبا والمؤتمر الوطني، وتأكد للقاصي والداني خطل ادعاء كامل إدريس حول حكومة “التكنوقراط”. وانتهت المسرحية التي أكدت ان كامل إدريس ما هو إلا واجهة مدنية لحكم العسكر والاسلامويين الذين يحلمون بالعودة للسلطة من بوابة الحرب التي وضح انها حرب لتصفية الثورة ونهب ثروات البلاد، والتفريط في السيادة الوطنية، وتمكين المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب لنهب ثروات البلاد، كما أكدت عمق أزمة حكومة بورتسودان، التي حاولت تسويق نفسها للعالم، وأن تخدع الناس بالحكم المدني، وما يخدعون إلا أنفسهم، ومصيرها الزوال في ثورة قادمة اقوى من ثورة ديسمبر، بعد تجمعت كل عوامل السخط من تدهور معيشي وصحي وامني، وحرب مدمرة حتى اصبحت الحياة لا تطاق، ولم يبق غير قيام أوسع جبهة جماهيرية لوقف الحرب واستعادة مسار الثورة، وتوفير العامل الذاتي الذي يقود الثورة حتى النصر مع الاستفادة من دروس التجربة السابقة.
إضافة إلى ان حكومة “التكنوقراط ” في ظل نظام شمولي عسكري ديكتاتوري لن تحل الأزمة. فقد خبر شعب السودان خلال سنوات المخلوع النميري حكم “التكنوقراط ” الذين حملوا أرقى الشهادات العليا من دكتوراة والأستاذية، بعد أحداث انقلاب ٢٢ يوليو ١٩٧١ الدموي، وما استطاعوا إلى حل مشاكل البلاد سبيلا. فما هي أهم معالم تلك التجربة؟
٢
وبعد انقلاب 22 يوليو 1971م الدموي، عين الرئيس المخلوع النميري عددا كبيرا من” التكنوقراط ” وزراء من حملة شهادات الدكتوراه والاستاذية، لكن في ظل تسلط نظام النميري فشلوا في حل مشاكل البلاد، وتعرضوا لإهانات و إقالات، وصفها بتفصيل منصور خالد في “كتابه النخبة السودانية وادمان الفشل”.
لكن رغم تكوين حكومة “التكنوقراط ” تفاقمت مشاكل البلاد الاقتصادية والمعيشية، وأزمة مصادرة الحريات. الخ. وتواصلت المقاومة الجماهيرية، وكانت مظاهرات واعتصامات طلاب المدارس الصناعية عام 1972م، والمظاهرات ضد زيادات السكر في مايو 1973م ، والتي أجبرت النظام علي التراجع عنها، كما انفجرت انتفاضة أغسطس 1973م والتي قادها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وبعض النقابات. وفي العام 1974م كانت هناك مظاهرات طلاب كلية الطب في الاحتفال باليوبيل الذهبي للكلية ضد السفاح نميري، واعتصام طلاب جامعة الخرطوم في ديسمبر 1973م، من أجل عودة الاتحاد الذي تم حله، وإطلاق سراح المعتقلين وحرية النشاط السياسي والفكري في الجامعة، والمظاهرات التي اندلعت ضد الزيادات في السكر والأسعار، و اضرابات ومظاهرات طلاب المدارس الثانوية في العاصمة والأقاليم عام 1974م من أجل انتزاع اتحاداتها وضد اللوائح المدرسية التي تصادر حقهم في النشاط السياسي والفكري المستقل عن السلطة والإدارات المدرسية حتى نجحوا في انتزاع اتحاداتهم.
وفي سبتمبر 1975م، وقعت المحاولة الانقلابية التي قام بها المقدم حسن حسين، وتم إغلاق جامعة الخرطوم، وتقديم قادة الانقلاب لمحاكمات واستشهادهم في “وادي الحمار” بالقرب من مدينة عطبرة.
وفي 2 يوليو 1976م، كانت المقاومة المسلحة من الخارج التي نظمتها الجبهة الوطنية (الأمة ، الاتحادي، الإخوان المسلمون) ، وبعد فشل المحاولة تم إعدام قادتها العسكريين والمدنيين (العميد محمد نور سعد، … الخ)، وتم التنكيل بالمعتقلين بوحشية، وتم وصف سودانيين معارضين (بالمرتزقة)!!!.
وفي أغسطس 1977م، انتهت فترة حكم” التكنوقراط ” وتمت المصالحة الوطنية والتي شارك بموجبها في السلطة التنفيذية والتشريعية أحزاب الأمة (الصادق المهدي) والاتحادي الديمقراطي (محمد عثمان الميرغني) والإخوان المسلمون (مجموعة د. حسن الترابي) ، ورفضت أحزاب الشيوعي والاتحادي (مجموعة الشريف الهندي) و البعث … الخ، المشاركة في السلطة، وتحت هيمنة نظام الحزب الواحد و”اجندة” نميري، وحكم الفرد الشمولي، والذي كان يهدف من المصالحة لشق صفوف المعارضة واطالة عمره والتقاط انفاسه التي انهكتها ضربات المعارضة المتواصلة.
وبعد المصالحة الوطنية تواصلت الحركة الجماهيرية ، وكانت اضرابات المعلمين والفنيين وعمال السكة الحديد، وانتفاضات المدن (الفاشر، سنجة، سنار، الأبيض. الخ)، وانتفاضات الطلاب، واضرابات الأطباء والمهندسين والقضاء، والمزارعين، ومعارك المحامين من أجل الحقوق والحريات الديمقراطية، و ندواتهم المتواصلة التي كانت في دار نقابة المحامين ضد القوانين المقيدة للحريات.
وفي مايو 1983م وبعد خرق النميري لاتفاقية أديس أبابا بعد قرار تقسيم الجنوب، انفجر التمرد مرة اخرى بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تزعمها جون قرنق، وزادت النيران اشتعالا بعد إعلان حالة الطوارئ وقوانين سبتمبر 1983م، والتي كان الهدف منها وقف مقاومة المعارضة الجماهيرية المتزايدة، ولكن المقاومة زادت تصاعدا بعد تطبيق تلك القوانين في ظروف ضربت فيها المجاعة البلاد، وتفاقم الفقر والبؤس بعد تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي منذ العام 1978م التي أدت لتخفيض العملة وانهيار الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي، والزيادات المتوالية في الأسعار وشح المواد البترولية، اضافة لفقدان البلاد لسيادتها الوطنية بعد اشتراك السودان في مناورات قوات النجم الصاعد ، ترحيل الفلاشا إلى اسرائيل، ديون السودان الخارجية التي بلغت 9 مليار دولار، تفاقم الفساد الذي كان يزكم الأنوف، تدهور مؤسسات السكة الحديد والنقل النهري ومشروع الجزيرة والتدهور المستمر في قيمة الجنيه السوداني. وتواصلت المقاومة ضد قوانين سبتمبر وتم الاستنكار الجماهيري الواسع لإعدام الشهيد الأستاذ محمود محمد طه في 18 يناير 1985م. وبعد ذلك بدأت المقاومة تأخذ اشكالا اكثر اتساعا وتنظيما وتوحدا، وتم تكوين التجمع النقابي والقوي السياسية الذي قاد انتفاضة مارس ابريل 1985م، بعد الزيادات في الأسعار التي أعلنها النظام في أول مارس 1985م، وتواصلت المظاهرات ضد الزيادات في بعض المدن مثل: عطبرة من أول مارس وحتى 6 ابريل، عندما أعلن التجمع النقابي الاضراب السياسي العام والعصيان المدني الذي اوقف الإنتاج وشل جهاز الدولة وأخيرا انحياز المجلس العسكري والذي أعلن الإطاحة بالنظام.
كان من عوامل ضعف الحركة السياسية والجماهيرية هو تشتتها ، ولم تتوحد الا في أبريل 1985م، أي في اللحظات الأخيرة لنهاية نظام مايو في ميثاق التجمع الوطني لإنقاذ الوطن.
مما أكد أن حكم “التكنوقراط” في ظل النظام العسكري الشمولي مصيره ايضا الى زوال.
المصدر: صحيفة التغيير