تسيّدت لجان الاستنفار، والمقاومة الشعبية المشهد العام في المناطق التي يسيطر عليها الجيش، في ظل غياب تام لمؤسسات الدولة الرسمية.

وأثارت قرارات صادرة من هذه اللجان، التي تسيطر عليها عناصر منتمية لتنظيم الحركة الإسلامية، موجات استهجان واسعة، لكون هذه القرارات تندرج ضمن مهام ومسؤوليات مؤسسات الدولة،وفي ظل السيولة السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد جراء الحرب المستمرة منذ عامين ونيف، استحوذت هذه اللجان على سلطات وصلاحيات واسعة، حيث أصبحت تتحكم من خلالها في كافة المجالات الأمنية والسياسية والخدمية.

نفوذ الإسلاميين في الجيش

أصدر قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان، في مايو من العام الماضي، لائحة الاستنفار والمقاومة الشعبية، في خطوة وُصفت بأنها تقنين وتعزيز لنفوذ الإسلاميين داخل الجيش السوداني. وأعقب صدور اللائحة قرارات من بعض ولاة الولايات التي يسيطر عليها الجيش بحل لجان المقاومة ولجان التغيير والخدمات، التي تكونت في الفترة الانتقالية المنقلب عليها من قبل الجيش.

درجت اللجان الشعبية في فرض  مبالغ مالية طائلة في مناطق سيطرة الجيش على الشاحنات وإيجار العقارات

جبايات خارج القانون

وتحصلت “إدراك” على نسخة من قرار أصدرته اللجنة العليا للاستنفار والمقاومة الشعبية بمحلية الدبة بالولاية الشمالية، في السابع من أغسطس الجاري، يقضي بفرض مبالغ مالية كبيرة على الشاحنات والعربات الداخلة إلى الولاية، في ظل صمت مؤسسات الدولة المعنية بالتحصيل المالي، والمتمثلة في وزارة المالية والمحلية.

وفي ذات السياق، تحصلت “إدراك” على نسخة من قرار صادر عن المقاومة الشعبية والاستنفار بمحلية شرق النيل في أواخر يوليو الماضي، قيدت بموجبه الإيجارات الجديدة في وحدة عد بابكر، مشترطة الحصول على الموافقة الأمنية المسبقة، وتشمل الموافقة الأمنية عملية فحص أمني مشروطة بموافقة الجيران.

مـؤسسات الظـل

تُعرَّف مؤسسات الظل في الأنظمة العقائدية، حسب دراسات متخصصة، بأنها أجهزة وهيئات غير رسمية (أو موازية) تعمل خلف الكواليس، وغالبًا خارج الإطار الدستوري أو القانوني، لكنها تمتلك نفوذًا أكبر من المؤسسات الرسمية الظاهرة. وفكرتها الأساسية أن الحاكم أو الحزب الحاكم لا يكتفي بالمؤسسات التقليدية مثل البرلمان، القضاء، أو الجيش الرسمي، بل يُنشئ أجهزة موازية تضمن الولاء المطلق وتمنع أي تمرد أو معارضة، حتى من داخل النظام نفسه،من أبرز أمثلتها:الأجهزة الأمنية والاستخباراتية السرية، مثل “الأمن الشعبي”، ومهمتها التجسس على المواطنين، وحتى على المسؤولين، لضمان الولاء.الميليشيات أو القوات شبه العسكرية، مثل “كتائب الظل” (البراء بن مالك)، وهدفها حماية النظام وقمع الاحتجاجات بسرعة أكبر من الجيش التقليدي. اللجان الشعبية، وهي تنظيمات حزبية أو عقائدية تُزرع في الأحياء والقرى والوزارات والجامعات لمراقبة الناس ونشر أيديولوجية النظام. المؤسسات الاقتصادية الموازية، وتشمل شركات وهيئات تسيطر على الاقتصاد وتُموّل الأنشطة السياسية والأمنية بعيدًا عن الرقابة الحكومية، القنوات الإعلامية الدعائية السرية، وهي منصات إعلامية أو حسابات إلكترونية غير معلنة الانتماء، لكنها تروّج لأفكار النظام وتهاجم خصومه.

عودة الدولة العميقة

ويقول الناطق الرسمي باسم تحالف السودان التأسيسي “تأسيس”، الدكتور “علاء نقد” إن الإجراءات التي اتخذتها لجان الاستنفار في المحليات أو الولايات التي يسيطر عليها الجيش وحكومة بورتسودان، تظهر أن الدولة عادت لمظهرها القديم، وبشكل أسوأ. وأضاف أن هذه المناطق تُدار بواسطة ميليشيات الحركة الإسلامية والمستنفَرين، مؤكدًا أن المستنفَرين أصبحوا قوة إدارية تفرض الجبايات ورسوم العبور على المزارعين والمواصلات والعربات بين الولايات، بالإضافة إلى فرض رسوم على الأسواق تحت مسمى “حرب الكرامة” ودعم القوات المسلحة.

وتابع نقد: “هذا يذكرنا بفترة حكم المخلوع البشير وحزب المؤتمر الوطني المحلول، تحت مسميات مثل دمغة الجريح ودمغة الشهيد، وهي ذات الاستراتيجية وذات العمل، لكن بأسماء ومسميات أخرى”. وأوضح أن ما يجري في مناطق حكومة بورتسودان هو أن كل الخدمات تُقدَّم مقابل جبايات وفساد، حتى المساعدات الإنسانية التي تأتي للمتضررين من الحرب تُفرض عليها جبايات في الأسواق، ويستفيد منها هؤلاء اللصوص.

ويجزم نقد أن المواطنين في مناطق سيطرة حكومة بورتسودان وجيش الإسلاميين هم رهائن وأسرى لدى الجيش، مثلهم مثل المدنيين في الفاشر الذين تأسرهم القوات المشتركة وتستخدمهم دروعًا بشرية، وتمنعهم من الخروج رغم الممرات الآمنة التي فتحتها قوات “تأسيس” لإخراج المدنيين.

قـانون الـوجوه الغريبة

من جانبه، يرى القيادي في حركة العدل والمساواة، الأستاذ “جبريل آدم بلال”، أن هذه الإجراءات تأكيد على أن الحرب الحالية هي حرب المؤتمر الوطني للعودة إلى السلطة، وأن التنظيم القديم عاد بذات سماته في التسعينات. وأشار إلى أن الأناشيد والتسجيلات التي يرددها المستنفَرون والجيش هي أناشيد جهادية معروفة للنظام الإسلامي المتطرف الذي حكم البلاد لأكثر من ثلاثين عامًا.

وأكد بلال أن الإسلاميين أحكموا السيطرة على الحياة السياسية والساحة العسكرية، وأن الجيش والأجهزة الأمنية (بما فيها المخابرات) باتت تحت سيطرتهم. ويصر على أن لجان الاستنفار والمقاومة الشعبية هي في حقيقتها لجان “الأمن الشعبي” من حيث القيادة والعناصر، وتعمل لصالح المؤتمر الوطني وتأمين عودته إلى السلطة.

وأشار “بلال” إلى أن الموافقة الأمنية المسبقة على عقود الإيجار، التي فرضتها لجان الاستنفار في شرق النيل، هي تفعيل لقانون “الوجوه الغريبة”، وتهدف إلى التأكد من عدم وجود سكان غرباء في المنطقة، أو وضعهم تحت الرقابة إذا وُجدوا. واعتبر أن هذا شكل من أشكال الفصل العنصري، كان يُمارس قبل 2019، لكنه عاد بشكل أفظع.

يشير القيادي في الحركة الشعبية “مهند زامل ” ان الحركة الإسلامية ادخلت عناصرها في المؤسسات الحيوية عبر التمكين وابعدت غير الموالين لها

الجيش والايـدلوجيا الإخـوانية

وفي السياق ذاته، قال عضو مجلس التحرير القومي للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودانشمال، “مهند زامل”، إن جهاز الدولة تأسس تاريخيًا على هذه المنهجية، حيث تعمل التنظيمات العقائدية على تمكين أعضائها في الخدمة المدنية، وتكوين أجهزة ظل تنظيمية داخلها، وإقصاء غير المنتمين لها. وأوضح أن الجبهة الإسلامية أدخلت عناصرها إلى مؤسسات الدولة عبر “التمكين”، وفصلت آلاف الموظفين غير الموالين، وأصبحت تدير الدولة عبر مؤسساتها الحزبية، بينما تحول جهاز الدولة الرسمي إلى جهاز بيروقراطي يمرر القرارات الصادرة من التنظيم.

وأشار “زامل” إلى أن المؤسسة العسكرية في السودان تحمل بدورها أيديولوجيتها الخاصة، التي تستند إلى عاملين: التبعية لبلدان أخرى والتحيزات العرقية، موضحًا أن هذين العاملين أثّرا على جميع المشاهد السياسية، وأن جميع الانقلابات في تاريخ السودان ارتبطت بهما.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.