عبدالمنعم العمرابي
كارثة صامتة في قلب الشمال
في شمال السودان، وتحديداً بمنطقة ابوصارة شمال مدينة دلقو التاريخية، تتكشف واحدة من أخطر القضايا البيئية في البلاد. شركة “دلقو للتعدين”، التي بدأت تحت اسم “الشركة التركية للمعادن”، تواصل أعمالها المثيرة للجدل في استخراج الذهب باستخدام مواد كيميائية قاتلة مثل السيانيد والزئبق. هذه المواد السامة تهدد حياة آلاف المواطنين وتعرض البيئة السودانية والبيئة في المنطقة لكارثة طويلة الأمد.
هوية مسروقة وأرض مهددة
لم تكتفِ الشركة بالتلوث والنهب، بل سرقت اسم المنطقة التاريخية لتُخفي هويتها الأجنبية تحت مسمى “دلقو للتعدين”. منشآتها لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن مساكن الأهالي، وتمتد أنابيبها إلى مياه النيل وسواقي المواطنين في عملية استغلال صريحة لموارد المجتمع المحلي.
السم الأبيض: جريمة ضد الإنسانية
استخدام السيانيد والزئبق لا يُمثل مخالفة بيئية فحسب، بل يرقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية. هذه المواد تتسرب إلى التربة والمياه الجوفية، وتنتقل عبر الهواء والغذاء، لتصيب الإنسان والحيوان معاً. تقارير خبراء البيئة بل وحتى منظمة الصحة العالمية حذّرت من المخاطر وطالبت بترحيل الشركة فوراً.
وعود كاذبة ومواثيق مكسورة
في عام سابق، تم التوصل إلى اتفق رسمي يقضي بترحيل الشركة خلال عامين. لكن بعد مرور أكثر من المدة المقررة، ما زالت الشركة تمارس نشاطها دون رادع. السلطات لم تكتفِ بالتقاعس عن تنفيذ الاتفاق، بل سمحت للشركة بالعودة بعد حكم قضائي قضى بترحيلها. هذا السلوك يُثير أسئلة خطيرة حول تضارب المصالح وتواطؤ بعض المسؤولين مع الشركات.
مقاومة شعبية وشجاعة في وجه الجشع
أهالي ابوصارة وأهالي المنطقة لم يصمتوا. نظموا اعتصامات وقطعوا المياه عن الشركة دفاعاً عن حياتهم وحقهم في بيئة نظيفة. وكانت الوقفة الاحتجاجية الكبرى تحت شعار “الصحة أولاً”، في رسالة واضحة بأن حياة الإنسان يجب أن تكون فوق كل استثمار وأطماع. لكن الأهالي فوجئوا بدعاوى قضائية رفعتها الشركة ضدهم، في محاولة مقلوبة لتصوير الضحية كجلاد. ورغم صدور حكم قضائي لصالح الأهالي، جاء قرار الوالي باستئناف عمل الشركة ليُعيد المشهد إلى المربع الأول.
أزمة أوسع من “دلقو للتعدين”
القضية لا تتعلق بشركة واحدة، بل بانتشار عشرات الشركات التي تعمل على ضفاف النيل وأحواض التعدين العشوائي المتناثر في المنطقة باستخدام نفس المواد السامة. النتيجة: تحويل النيل إلى مقبرة كيميائية تهدد حياة ملايين النوبيين، في وقت تغيب فيه الرقابة الجادة والمعايير البيئية الصارمة.
مسؤولية قانونية دولية
تجاهل هذه الكارثة لا يعني فقط انهيار المنظومة البيئية المحلية، بل يُمكن أن يرقى إلى مساءلة جنائية دولية. فالقوانين الدولية تُصنّف التلويث المتعمد للبيئة بما يؤدي إلى تدمير حياة السكان ضمن جرائم ضد الإنسانية. وبالتالي، فإن المسؤولين عن استمرار هذه الكارثة من الشركات إلى الجهات الحكومية المتواطئة وضعاف النفوس من أبناء المنطقة قد يواجهون الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية
نداء أخير قبل فوات الأوان
- كل يوم يمر يعني مزيداً من السموم في الأرض والماء.
- كل ساعة تأخير هي خيانة للأجيال القادمة.
- الصمت على هذه الجريمة شراكة في القتل.
إن ما يحدث في شمال وجنوب ابوصارة اليوم كارثة إنسانية بكل المقاييس. فقد سجلت الإحصائيات ازدياداً في أعداد المصابين بالسرطانات والفشل الكلوي، نتيجة التلوث المباشر من أنشطة الشركة. وإذا كانت الشركة لا تبالي بأن الناس يموتون بهذه الأمراض الفتاكة، وترفض مبدأ الترحيل، فعليها على الأقل أن تلتزم بالبعد الآمن عن حياة المواطنين ومصادر مياههم.
ومن أبسط حقوق المواطنين أن يمنعوا هذه الشركة من جلب المياه من سواقيهم، لأن الماء هو شريان الحياة، وحمايته واجب مقدس.
دلقو اليوم تستغيث، فإما أن يتحرك الضمير الآن، أو سيكتب التاريخ أن أبناء هذا الوطن من الانتهازيين باعوه بالذهب الملوث بالدماء، وتخلوا عن أرضهم ومياههم ومستقبل أجيالهم.
المصدر: صحيفة الراكوبة