منطلقة أساسية في سياق فهم ما يقع
تنطلق هذه المقالة التحليلية للموقف الأمريكي من المشاركة المباشرة في الهجوم على إيران ونظامها السياسي، في نظر الكاتب، من أربع مسلمات أساسية أطرحها كالتالي:

يعتبر كلا من المشروعين الصهيوني والإيراني مشروعين توسعيين ومهددين للأمن والسلم للدول العربية (ضرب السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي ناهيك عن احتمالية كبيرة في إنهاء وجود العديد من الكيانات العربية في المنطقة)، كما أن النظامين السياسيين لكل من الدولة الصهيونية والدولة الإيرانية يربطان مجاليهما الحيويين بالتوسع على حساب دول المنطقة وإخضاعها لصالح خدمة كل من مشروع التطبيع الصهيوني ومشروع تصدير الثورة الإيرانية؛

أن الصراع بين الكيان الصهيوني وبين النظام الإيراني هو صراع بين المشروع الصهيوني والمشروع الشيعي لأجل فرض الهيمنة على الدول العربية، وإخضاعها، وأن لا مصلحة للدول العربية في انتصار أحدهما على الآخر؛

أن منطقة الشرق الأوسط أمام متغيرات جيوسياسية قادمة، قد تكون عاصفة، ستؤدي في النهاية إلى مزيد من تكريس حالة التردي للنظام السياسي العربي الرسمي (الذي انتهى رسميا منذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003) مع فرض مزيد من التبعية على دوله كونها سمحت بجعل مصيرها بين مطرقة المشروع الصهيوني وسندان المشروع الشيعي؛

العالم على موعد مع تغيير عميق في موازن القوى الدولية، ويعيش بداية مرحلة انتقال إلى عالم متعدد الأقطاب وتراجع الانفراد الأمريكي بزعامة العالم ونهاية أطروحة نهاية التاريخ.
من يعرف تأثير اللوبي اليهودي على صانع القرار السياسي الأمريكي، على مختلف المستويات وفي قلب كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي اللذان يتنافسان ويتسابقان، لدعم السعي الحثيث، لرئيس وزراء الكيان الصهيوني ” نتن ياهو” في تغيير خريطة الشرق الأوسط لصالح فرض هيمنة المشروع الصهيوني وتكريس خضوع دول المنطقة له، يرى أن ما يقع الآن من تردد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في اتخاذ قرار المشاركة العملية في مهاجمة إيران وتدمير برنامجها النووي، والقضاء على قدراتها الصاروخية الباليستية، أنه أمر غير طبيعي بالمرة، وربما تحكمه اعتبارات عدة غير معلنة، ليس من بينها قطعا رغبة أمريكا في عودة إيران إلى طاولة المفاوضات، ويسير عكس ما كانت تتمناه دولة الكيان الصهيوني من هرولة الراعي الأول لها في غطرستها وإجرامها ضد دول وشعوب المنطقة.

أعتقد أن هذا التردد الأمريكي، الحاصل الآن، في المشاركة العملية لدعم الكيان الصهيوني، بعد الدعم اللوجيستي الهائل التي تقدمه له، في حربه الجارية على إيران لا يأتي من فراغ، بل يستند على جملة من المعطيات والفرضيات التي قد تفسر لنا، ما قد يراه البعض، كون هذا التناقض، أو التردد الذي عبر ويعبر عنه الرئيس الأمريكي في مختلف تصريحاته التي صدرت عنه، لحد الآن، حول مدى دخوله الحرب إلى جانب الكيان الصهيوني من عدمه. تستند هذه المقالة على جملة من المعطيات والفرضيات يمكن إجمالها على الشكل الآتي:

1 القدرة الإيرانية على امتصاص صدمة الضربة الأولى
ما يجري الآن على ساحة المعركة، بعد مرور أسبوع كامل على بداية حرب الكيان الصهيوني على الجمهورية الإيرانية؛ حيث أثبت هذه الأخيرة قدرتها على امتصاص الضربة الفجائية والاستباقية التي تعرضت لها بعد عملية “تنويم مغناطسي”، وتمويه و “خداع استراتيجي” مارسه الرئيس الأمريكي على حكام إيران، وهذا باعتراف كل من الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) ورئيس وزراء الكيان الصهيوني (نتن ياهو)، من خلال رسائله المستمرة حول استبعاد أي هجوم على إيران في ظل استمرار قنوات التفاوض المباشرة بين أميركا وإيران حول نووي هذه الأخيرة.
القدرة الصاروخية الإيرانية المتصاعدة والفعالة في إعادة توازن الردع بين إيران ودولة الاحتلال الصهيوني، والتي أوقعت الكثير من الخسائر في داخل عمق الكيان لم يكن حتى أكثر المتشائمين، حسب مراقبين، يتوقع حدوثها في أسوء السيناريوهات، بعد الضربة المفاجئة التي تلقتها إيران، التي كشفت لنا أيضا مدى عمق اختراق جهاز (الموساد) وشبكة عملائه المنتشرة في جميع مفاصل النظام الإيراني، وفي أعلى مستوياته، التي كانت نتيجتها ضرب قيادات الصف الأول العسكرية والعلمية (قادة عسكريين وازنين وعلماء المشروع النووي الإيراني)، إلى جانب العديد من الأهداف العسكرية والاستراتيجية وعلى رأسها المنشآت النووية في جميع أنحاء إيران.

2 صراع الأجنحة داخل الإدارة الأمريكية: تيار “أمريكا أولا” مقابل تيار “المسيحيين الإنجيليين”
يعتبر هذا المعطى من بين أهم أسباب عدم الحسم الأمريكي في الانخراط المباشر في الحرب إلى جانب الكيان الصهيوني ضد إيران. ذلك أن قاعدة ناخبي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتشكل من جناحين، أو لنقل تيارين يهيمنان على الحزب الجمهوري حاليا، الأول: وهو تيار “لنجعل أمريكا عظيمة من جديد MAKE AMERICA GREAT AGAIN”، المعروفة اختصارا باسم (MAGA) الذي كان شعار حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة، هذا التيار غير متحمس لدخول أمريكا في الحرب ضد إيران بل ويعارضها مطلقا، ويقول: ما لنا ولحروب الكيان الصهيوني؟ بل ويجعل من تورط أمريكا المتوالي في الحروب الخارجية من بين أسباب تراجع عظمة الولايات المتحدة الأمريكية. وعليه يقول هذا التيار: أن على الإدارة الأمريكية التركيز على معالجة مختلف المشاكل الداخلية التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية مثل: دعم الاقتصاد الأمريكي في مواجهة التنين الصيني عبر معالجة مشاكل الركود الاقتصادي، ومشاكل البطالة والهجرة من خلال الحد من تدفق المهاجرين الأجانب وترحيلهم، في حين يتشكل التيار الثاني من “المسيحيين الإنجيليين والمسيحيين المتهودين” (وهنا يمكن أن نفهم تصريح الرئيس الأمريكي، في منتصف شهر ماي خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة، حين زار البيت الإبراهيمي في الإمارات العربية المتحدة بأنه نصف يهودي)، وفي مقدمتهم زعماء الكنيسة الإنجيلية ذووا التأثير الكبير على اليمين المسيحي المتدين خاصة في ولايات الجنوب الأمريكي، وهم المناصرين الأكثر شراسة للكيان الصهيوني لما ذلك من صلة بمعتقدات الكنيسة الإنجيلية التي ترى أن قيام دولة “إسرائيل” يمثل تحقيقا لنبوءات الكتاب المقدس وأن ذلك مرتبط بنهاية الزمان والمجيئ الثاني ليسوع المسيح ليحكم مملكة الألف عام.

 

الواقع الجيوسياسي المتغير في 2025 ليس هو واقع غزو العراق 2003.
عكس ما كان سنة 2003 حين غزت أمريكا العراق وأسقطت نظام (صدام حسين) تحت ذرائع واهية أثبت الواقع والتاريخ زيفها وكذبها، من ادعاء تورط العراق في هجمات 11 شتنبر 2001، وسعيه لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. حينها كانت القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، لا تزال تبحث عن موطئ قدم لها في عالم ما بعد انهيار القطبية الثنائية، التي كان قائما عليها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، بسقوط الاتحاد السوفياتي وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم، وتشكيل ما كان يسمى حينها في الأدبيات الجيوسياسية بالقطبية الأحادية في ظل سيطرة أطروحة الأمريكي ذي الأصول اليابانية (فرانسيس فوكوياما) حول (نهاية التاريخ والإنسان الأخير، 1992م) وتكريس الهيمنة الأمريكية وسيادة الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية بعد سقوط الأنظمة الشمولية ونهاية الإيديولوجيات المتصلة بها (الأنظمة الشيوعية). وبالتالي فإن الهدف الاستراتيجي المتمثل في إسقاط النظام الإيراني، وليس فقط القضاء على المشروع النووي لإيران، وفق ما صرح به رئيس وزراء الكيان الصهيوني، قد يشكل الفخ الذي تحاول أمريكا عدم الوقوع فيه عبر الانسياق مع طموحات رئيس وزراء الكيان (نتن ياهو) لما يتطلب ذلك من ضرورة إقحام قوة عسكرية بشرية على الأرض، وليس فقط الاكتفاء بالضربات العسكرية الجوية، مما قد يشكل مستنقعا جديدا للقوات الأمريكية لن تخرج منه بسهولة (مما يكرر سيناريوهات فيتنام وأفغانستان) مع استحضار الفارق الكبير في القوة والقدرة على التصدي والصمود من قبل الجانب الإيراني، عكس ما وقع مع النظام العراقي، وقدرته على مهاجمة القواعد العسكرية الأمريكية المتواجدة بدول الجوار الإيراني ولم لا تحريك أذرع إيران (عديد التجمعات الشيعية المتواجدة بكل دول الخليج المرتبطة بمشروع ولاية الفقيه) بتلك الدول لخلق الفوضى فيها وتهديد استقرارها الأمني والسياسي، وهو ما كان يَعِدُ (دونالد ترامب) ناخبيه الأمريكيين في حملته الانتخابية بعدم تكراره.

4 استحضار سيناريو حرب روسيا على أوكرانيا والذهاب إلى حرب عالمية ثالثة
تزايد النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري لكل من الصين وروسيا في ظل تشكل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب والعداء الأمريكي المعلن لكلا البلدين، وبالأخص الصين التي دخل معها الرئيس الأمريكي حربا تجارية واقتصادية غير مسبوقة مباشرة بعد توليه الرئاسة الأمريكية في ولايته الثانية، عبر ما سمي بحرب الرسوم الجمركية، أمر لن تنساه الصين بسهولة، إضافة إلى ذلك فإن روسيا لن تنسى كذلك الدعم الأمريكي الذي قدمته إدارة الرئيس الأمريكي السابق (جو بايدن) لأوكرانيا لدعم صمودها في مواجهة الدب الروسي الساعي إلى التمدد غربا. كل ذلك قد يعني أن تورط أمريكا في حربها المباشرة مع إيران قد يشكل فرصة مهمة، ولا يمكن أن تتكرر مرة أخرى، لكل من الصين وروسيا، في إنهاك الولايات المتحدة الأمريكية عبر دعم البلدين لإيران عسكريا وبأحدث الأسلحة تطورا وفتكا للعمل على استطالة صمود النظام الإيراني وعدم السماح بسقوطه بسهولة، وهو ما يعني تكرار سيناريو حرب روسيا على أوكرانيا في نسختها الأمريكية الإيرانية. وهنا يمكن استحضار مسألة “تاريخيةسيكلوجية” متعلقة بانتهازية الكيان الصهيوني الذي ليس له أدنى مشكلة في تغيير ولاءاته للقوى الكبرى البديلة، واستعداده لخدمة مصالحها لأجل استدامة وجوده، في حالة إنهاك حليفه الأمريكي الحالي (هذه الفرضية قد تبدو بعيدة التحقق لكن إذا استحضرنا ما وقع بعد الحرب العالمية الثانية حين تراجع الدور البريطاني في دعم الكيان الصهيوني لصالح الحليف الأمريكي يمكن فهم ما قد يقع مما يعني إمكانية قيام حرب عالمية ثالثة).

4 تداعيات الحرب الهندية الباكستانية، والعداء الصهيوني لباكستان النووية
تعتبر تصريحات رئيس وزراء الكيان الصهيوني (نتن ياهو) منذ سنوات في مقابلة تلفزيونية مصورة مع قناة إخبارية أمريكية حول سعي الكيان الصهيوني منع، بل ومهاجمة أي دولة إسلامية تسعى لامتلاك قدرات نووية، وإشارته الواضحة إلى أنه بعد مهاجمة المشروع النووي الإيراني والقضاء عليه سيأتي الدول على دولة باكستان وبل على كل دولة عربية أو إسلامية تسعى لامتلاك السلاح النووي. وقد تجسد العداء الصهيوني لدولة باكستان في دعم الكيان للهند في حربها الأخيرة على باكستان، بل وتشجيعها الدائم للسردية الهندية حول منطقة (جامو وكشمير) التي تعتبرها باكستان أراض تابعة لها تحتلها الهند. والمنطق الجيوسياسي يفرض على باكستان دعم الموقف الإيراني في مواجهة الكيان الصهيوني، مع العلم أن هناك إجماع في المحور الشرقي الصينيالروسيالباكستاني على دعم إيران ومنع سقوط النظام فيها في مواجهة المحور الغربي الصهيوني بقيادة أمريكا.

تسويات غير منتظرة، عبر سيناريو محتمل

مما قد يغير المعادلة القائمة حاليا، المتمثلة في المواجهة الإيرانية المتصاعدة والنوعية لهجوم الكيان الصهيوني المستمر منذ عشرة أيام، التي قلبت الصدمة الإيرانية الأولى إلى جحيم يومي يعيشه عمق الكيان الصهيوني، وإعلان الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) عدم التسرع في الاستجابات لاستجداءات رئيس وزراء الكيان الصهيوني المتكررة له للدخول المباشر في الحرب ضد إيران، بالرغم من ترديده عديد عبارات المديح والإطراء على قوة شخصية الرئيس الأمريكي، والعزف على وتر “نرجسيته” التي يحبها ترامب كثيرا، وأن أمريكا وحدها، بقدراتها العسكرية الخارقة، القادرة على توجيه الضربة القاضية للمشروع النووي الإيراني عبر ضرب (منشأة فوردو النووية) الواقعة في جبال قم والأكثر تحصينا من بين جميع منشآت إيران الأخرى. الشيء الوحيد القادر على تغيير ذلك كله هو حدوث تسويات ما، وفق سيناريو محتمل يتم حبك خيوطه في الغرف المغلقة والمظلمة، بين المحور الشرقي الداعم لإيران وبين الولايات المتحدة الأمريكية. تلك التسويات قد تكون مجتمعة أو مع كل طرف على حدا.

بهذا قد تكون مهلة الأسبوعين التي حددها الرئيس الأمريكي قبل اتخاذ قرار الدخول المباشر في الحرب إلى جانب الكيان الصهيوني تذهب لتغذية هذا السيناريو. فكيف يمكن حدوث ذلك؟ الإجابة باختصار شديد تكمن في أن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية تنازلات وازنة للأطراف الثلاثة، روسيا عبر تمكينها من أوكرانيا، والصين عبر تنازلات في ملف الحرب التجارية ولم لا تقديم تايوان لها على طبق من ذهل، وباكستان عبر وعود حقيقية في ملف (جامو وكشمير)، وهي تنازلات ربما، ( وهذا افتراض أكرر مرة أخرى قد يبدو مستبعدا لكنه غير مستحيل الوقوع)، قد تدفع المحور الشرقي الداعم لإيران حاليا، لأن يقبل كل طرف منهم بما تقدمه له أميركا ويرى بأنه يلبي طموحاته، ويجعل ما يحصل عليه عِوضاً كافيا له، وبالتالي تقبل الأطراف جميعها بأن تهزم إيران، ولم لا أن يتم تغيير النظام الإيراني برمته، ليتم في الأخير حدوث ذلك التغيير العميق للجغرافية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط الذي يبشر به رئيس وزراء الكيان الصهيوني. قد وقع في التاريخ، البعيد والقريب، الكثير من مثل هذه التسويات السري التي أدت إلى إنهاء تحالفات وإسقاط دول ولم تظهر تفاصيلها إلى العلن إلا بعد حين، وذلك كله يسير في إطار أهداف الحرب التي هي سياسة بوسائل أخرى وأن العلاقات الدولة مبنية على المصالح أكثر من كونها مبنية على المبادئ.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.