تجتاز القضية الوطنية الأولى مرحلة حاسمة في ضوء النجاحات الكبيرة للدبلوماسية المغربية تحت التوجيهات الملكية السامية، التي أفلحت في اجتياز العديد من العقبات والمطبات وكشف الكثير من المناورات والدسائس التي تقودها أساسا الجارة الشرقية وبعض الدول المعادية سياسيا (جنوب إفريقيا، ناميبيا، بعض دول أمريكا الجنوبية…)، وتوجت هاته النجاحات السياسية والدبلوماسية بالاعتراف الفرنسي والإسباني الرسمي بالحقوق التاريخية والشرعية للمملكة المغربية في أقاليمها الجنوبية، تكاملا مع مسار الاعترافات الدولية الرسمية بخطةمشروع الحكم الذاتي للصحراء المغربية وافتتاح العديد من القنصليات في مدينتي الداخلة والعيون المغربيتين.
لكن وبحكم التعقيدات السياسية والتاريخية والجيوستراتيجية لهذا النزاع الإقليمي المفتعل، يجد المغرب نفسه مرة أخرى أمام تحديات جديدة وقرارات ومقترحات سياسوية مشبوهة (قرار محكمة العدل الأوروبية ومقترح التقسيم المشبوه) تهدف أساسا لفرملة إيجاد حل سياسي نهائي واقعي ودائم لهذا الملف الذي عمر طويلا بأروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
في هذا السياق، ينبغي على المغرب ومؤسساته الوطنية وقواه الحية استثمار الجهود الكبيرة المبذولة وتركيزها من أجل تسريع الحسم النهائي لهذا الملف في السنوات القليلة القادمة، لأنه أصبح يرخي فعليا بظلاله على الوضع السياسي والأمني في المنطقة المغاربية وشمال إفريقيا وعلى العمل الإفريقي المشترك (الاتحاد الإفريقي) وبات الوضع الحالي المتسم بالانتظارية والجمود السياسي يقف عائقا أمام تقدم هذه الدول الاقتصادي والاجتماعي.
فالدينامية الكبيرة المشهودة والمتسارعة للدولة المغربية في تدبير وحسم الملف تتطلب في هذه المرحلة الدقيقة والحاسمة تضافر الجهود الوطنية وتسارعها وتكاملها، إلى جانب تنويع المبادرات الدبلوماسية والبرلمانية الفعالة وتعميق الشراكات السياسية والاقتصادية والتجارية مع الدول المؤثرة مباشرة في القضية (أعضاء مجلس الأمن الدولي)، ومع الدول الصاعدة والمؤثرة دوليا (الهند، البرازيل، تركيا…) بعض دول الجنوب المؤثرة (إثيوبيا، نيجيريا…) مع تثمين وتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء والشركاء التقليديين والتاريخيين للمملكة المغربية (السعودية، الإمارات، البحرين، الأردن، السنغال…).
في السياق نفسه، يتأكد في ظل الظروف الدولية الحالية أن حل هذه القضية إقليميا وأمميا أصبح ممكنا حاليا أكثر من أي وقت مضى، فبالإضافة إلى الوَقَائِعُ الميدانية على الأرض التي تدعم بشكل كبير الموقف المغربي القوي، تكمن أيضا آفاق الحل المغربي المقترح لهذا النزاع الإقليمي المفتعل في عروض ومبادرات سياسية واقتصادية واستثمارية مبتكرة وواعدة للدول المعنية والمؤثرة مباشرة في القضية على أساس رابحرابح، تضمن المصالح المشتركة والمتبادلة تجاوبا مع التحديات التنموية والاقتصادية للمحيط الإقليمي وللعمق الإفريقي للمملكة المغربية (المبادرة الملكية الأطلسية، ومشروع خط أنبوب الغاز المغربنيجيريا كمثال).
على هذا الأساس، يعتبر تسريع تطبيق مبادرة الحكم الذاتي المقترح من طرف المغرب ضرورة ملحة ومصلحة مغربية استراتيجية، بدل انتظار تجاوب الأطراف الأخرى التي مازالت غارقة للأسف في أوهام وأطروحات ماضوية متجاوزة ومازالت تعزف عن قراءة الظروف السياسية الدولية الراهنة.
فعالم اليوم المدفوع بالواقعية السياسية أصبح موغلا أكثر فأكثر في البحث عن المصالح الاقتصادية البحثة والصفقات التجارية المربحة بعيدا عن الاصطفافات والإديولوجيات السياسوية “العاطفية” التي ميزت العلاقات الدولية في فترة الستينات والسبعينات والثمانينات والتي تسببت في افتعال هذا النزاع الإقليمي وتعقيده وتأخير حله النهائي.
في هذا الصدد، يعد موقع المغرب الجغرافي ووضعه الخاص، حليفا وشريكا موثوقا في قضايا الأمن والهجرة والتنمية وقناة ربط رئيسية بين دول الشمال والجنوب إلى جانب نموذجه السياسي والاقتصادي الناجح وقوته الناعمة (اجتماعيا وثقافيا وروحيا ورياضيا…)، عوامل قوة مؤثرة تجعل من المملكة المغربية لاعبا أساسيا وفاعلا محوريا في إفريقيا ومنطقة المتوسط والشرق الأوسط على جميع المستويات، وبالتالي فالحل النهائي لهذا الملف سيشكل بدون شك إضافة حقيقية ونقلة نوعية للمنطقة ولمستقبلها على جميع المستويات.
في هذا الإطار، يتوجب على المغرب صاحب الدبلوماسية العريقة والهادفة والحكيمة تاريخيا المرور للسرعة القصوى ولعب جميع الأوراق السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية (تنظيم كأس العالم 2030 وكأس إفريقيا 2025، شراكات رياضية…) واستثمار جميع المكتسبات والمنجزات وعوامل القوة المتوفرة والبناء عليها من أجل حسم الملف نهائيا في السنوات القليلة القادمة للتفرغ تماما للتحديات الاقتصادية والتنموية المستقبلية.
فالتغيرات المتسارعة والدراماتيكية التي يعرفها العالم حاليا تنذر بتقلبات جذرية في العلاقات والتحالفات الدولية، مما يسرع حقيقة من إمكانية التوصل إلى حل نهائي سياسي واقعي وجدي ومستدام لقضية الصحراء المغربية في السنوات القليلة المقبلة في إطار السيادة والوحدة الترابية المغربية.
في هذا الخصوص، ينبغي على الدولة المغربية ومختلف الفاعلين والمتدخلين والمعنيين بالملف (هيئات دبلوماسية، برلمان، أحزاب، نقابات، منتخبين محليين، رجال أعمال…) استغلال الظروف السياسية الدولية واستثمار الزخم السياسي الذي يواكب صعود الأحزاب السياسية ذات النزعة البراغماتية والشعبوية (اليمينية خصوصا) في العالم، من أجل تعميق العلاقات السياسية وتنويع الشراكات الاقتصادية والتجارية مع مختلف الفاعلين في الدول المعنية بالملف وجعلها تهدف أساسا إلى حسم ملف مغربية الصحراء دوليا.
إلى جانب ذلك، يقتضي الأمر كذلك تشجيع المبادرات الشعبية والجمعوية الهادفة بالإضافة إلى تنشيط الديبلوماسية المؤسساتية والعلمية (ترافع الأساتذة الباحثين والخبراء المتخصصين…) ودور المغاربة المقيمين في الخارج، وذلك عبر تدعيم وتفعيل العمل السياسي الشعبي الموازي ترجمة للإجماع الوطني حول الصحراء المغربية باعتبارها قضية وجودية لكل المغاربة بمختلف انتماءاتهم السياسية والنقابية والثقافية، في أفق الوصول إلى طي نهائي لهذا الملف من أجل التركيز أكثر على التحديات المستقبلية الاقتصادية والتنموية التي تواجه المغرب، باعتباره قوة استقرار إقليمية تساهم بشكل كبير ومباشر في إرساء واستتباب الأوضاع الأمنية والسياسية في شمال إفريقيا والمتوسط ومنطقة جنوب الصحراء والساحل، التي أصبحت تحظى خصوصا باهتمام بالغ ومتزايد من الدول الكبرى (أمريكا، روسيا، الصين…) ومن المحاور الدولية والتكتلات الاقتصادية (مجموعة السبع، الاتحاد الأوروبي، البريكس…).
فكما سبق ذكره، فإن المرحلة الدقيقة التي تجتازها القضية الوطنية الأولى بالإضافة إلى التقلبات السياسية والأمنية والجيوستراتيجية في محيطنا وفي العالم تتطلب مزيدا من التعبئة الوطنية ومزيدا من البراغماتية السياسية والدبلوماسية والاقتصادية في تناول وطرح الموضوع مع جميع الأطراف المعنية بهذا الملف، ولذلك ينبغي الإسراع في عرض آفاق الحل السياسي الواقعي الوحيد المقترح من طرف المغرب (مخطط الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية) وما يقدمه من فرص اقتصادية واعدة ومبادرات تنموية شاملة (محلية وإقليمية ودولية)، تجعل من الصحراء المغربية مجالا خصبا وغنيا ليس فقط للترابط الجغرافي والثقافي بين شمال القارة الإفريقية وجنوبها ولكن مجالا استراتيجيا وتنمويا متكاملا لربط دول الشمال بدول الجنوب، على أساس شراكات ومبادرات موثوقة وتعاون ناجح متعدد الأقطاب والأهداف والمجالات، يعود بالنفع على جميع الدول المعنية بالملف.
المصدر: هسبريس