تتجه عقارب الموقف الغربي بعيدًا عن مركز الثقل التقليدي الذي شكّل، لعقود، حصنًا دبلوماسيًا منيعًا لإسرائيل. ليست هذه مجرّد تقلبات ظرفية تمليها ضرورات العدوان الوحشي على غزة، بل هي ملامح تحوّل عميق ومتراكم، تتقاطع فيه اعتبارات الأخلاق العامة، وضغوط الرأي العام، وتآكل سردية التفوق الأخلاقي الإسرائيلي التي طالما كانت ورقة العبور إلى عواصم القرار الغربية.
لم يعد ممكنًا، حتى في أروقة العواصم التي شكّلت المظلة الدائمة لإسرائيل، تجاهل فداحة المجاعة في غزة، وقسوة المشاهد المتكررة لأطفال يتساقطون جوعًا، أو لمتظاهرين في شوارع غربية يطالبون بوقف المجازر بلغة لا لبس فيها.
فحكومات مثل فرنسا وبريطانيا وكندا تتحدث اليوم بلغة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لا كمكافأة نهائية لاتفاق سلام، بل كخطوة ضرورية لتصحيح ميزان أخلاقي مضطرب بات يحمل كلفة سياسية داخلية متصاعدة.
في غضون أشهر قليلة، انهارت الركيزة الأساسية لسياسة “الاعتراف المشروط”، وانقلبت بوصلة “التحفّظ العقلاني” لدى أوروبا إلى تبنٍّ متسارع لموقف يرى في الاحتلال والعدوان عقبة أمام استقرار الشرق الأوسط لا ضامنًا له.
هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، فالمجتمعات الغربية التي شجّعت لعقود على حلول التسوية، تواجه اليوم جيلًا جديدًا، أكثر وعيًا، وأكثر جرأة في طرح الأسئلة الكبرى، وأكثر ميلًا لفهم الحق الفلسطيني خارج رواية الصدمة التي أسست للكيان الإسرائيلي.
التحول لا يقف عند حدود الحكومات. من الجامعات إلى مسارح الأوبرا، ومن ساحات الاحتجاج إلى استطلاعات الرأي، يتكشّف مزاج غربي جديد يرفض الإملاء الأخلاقي الإسرائيلي، ويضع المسألة الفلسطينية في قلب الضمير العالمي. فلم تعد تهمة “معاداة السامية” سلاحًا ناجعًا لردع النقد، ولا الخطاب الأمني مبررًا كافيًا لتبرير المجاعات الممنهجة أو الإبادة البطيئة.
لكن العزلة التي تزداد وطأتها على إسرائيل ليست وليدة اللحظة. إنها نتيجة مباشرة لسلوك سياسي توسّعي قاوم طيلة عقود كل فرص السلام الحقيقي، وراكم سجلًا مثقلاً بالانتهاكات، واستثمر في حكومات يمينية لم تُخفِ عداءها لحل الدولتين، بل سارعت إلى تقويضه عمليًا على الأرض.
في هذا السياق، يبدو من السذاجة اعتبار الاعتراف الغربي بدولة فلسطينية مجرد ردّ فعل آني، بل هو في جوهره حكم متأخر على إخفاقات استراتيجية إسرائيلية مزمنة.
الأهم من كل ذلك، أن الغرب لم يغيّر موقفه فقط، بل غيّر زاوية نظره الأخلاقية. ولأول مرة منذ عقود، لا يُنظر إلى إسرائيل كضحية دائمة لعدوان خارجي، بل كفاعل مسؤول عن أزمة إنسانية شاملة.
هذه المراجعة الأخلاقية، وإن جاءت متأخرة، تفتح الباب لمرحلة جديدة من التعامل مع الصراع، عنوانها فقدان الحصانة السياسية التي لطالما تمتعت بها تل أبيب.
ولئن ظلّت واشنطن، حتى الآن، على موقفها الحذر، فإنها تجد نفسها معزولة بدورها عن المزاج الدولي الآخذ في التبلور. عزلة إسرائيل، في هذا المعنى، ليست عزلة سياسية فقط، بل هي أيضًا عزلة سردية، وعزلة قيم، وعزلة في الاتجاه نحو المستقبل.
السردية الصهيونية انهارت في غزة لأن الحقيقة خرجت من تحت الركام، وتكفّلت المجاعة بالباقي. لم يعد الصمت الغربي كافيًا، ولا الذرائع القديمة صالحة. والعالم، وإن تأخر، بدأ يتحدث بلغة لم تعتد إسرائيل سماعها، لغة المحاسبة.
لم يعد التحول الغربي تجاه إسرائيل مجرد تعديل في السياسات أو إعادة تموضع دبلوماسي، بل هو أقرب إلى إعادة تعريف جذرية لموقع إسرائيل في الوعي السياسي والأخلاقي الغربي. لقد اعتادت العواصم الكبرى التعامل مع إسرائيل كحليف استثنائي، محصّن من النقد، ومدعوم في السرد وفي الفعل.
لكن ما بعد غزة ليس كما قبلها. فالغرب، الذي صمت طويلًا على انتهاكات الاحتلال، بات يُعيد نظره في الأساس الذي بُنيت عليه العلاقة: من هي إسرائيل؟ وما مسؤوليتها عن الكارثة الإنسانية التي تتكشّف أمام العيون؟ ولماذا تستمر في ادعاء دور الضحية بينما تُمارس فعل القوة المتوحشة؟
هذا التحوّل لا يعني فقط إدانة سلوك ميداني في حرب واحدة، بل سحب الامتياز الأخلاقي الذي منح إسرائيل لعقود موقعًا خاصًا خارج القانون والمساءلة.
الاعتراف المتزايد بفلسطين ليس حدثًا رمزيًا معزولًا، بل علامة على سقوط التحفظات الغربية التقليدية، وتقدّم وعي جديد يتجلى في توسّع حملات المقاطعة، وتضامن ثقافي وأكاديمي متنامٍ، وانتفاضات طلابية تُعيد تعريف علاقة الأجيال الجديدة بإسرائيل ككيان احتلال لا كشريك ديمقراطي.
إن منطق الهيمنة، الذي صاغ معادلة العلاقة الغربية مع إسرائيل منذ النكبة، يدخل اليوم في اختبار عسير.
ولعل ما نشهده ليس نهاية الحصانة فحسب، بل بداية حساب لم يكن يومًا في الحسبان.
المصدر: هسبريس