منذ أن اقتحم الذكاء الاصطناعي عالم التعليم، عادت إلى الواجهة، أسئلة ملحّة تحمل في طياتها قلقًا خفيًا: هل يجب احتضانه أم إبقاؤه على مسافة حذرة؟ هل يشكل فرصة للتلميذ أم خطرًا على استقلاليته؟ هل هو أداة تحرّر أم عكاز معوق؟ بين الحماسة والخوف، تبقى المدرسة في حيرة. غير أن هذا التردد يخفي في الغالب لبسًا أعمق: كما في مجال البحث العلمي، فالمشكلة في التعليم ليست في الأداة نفسها، بل في الطريقة التي تُنقل بها وتُرافَق وتُعلَّم.
فالذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف، ليس إلا حلقة جديدة في سلسلة قديمة من وسائل نقل واكتساب المعرفة. لم يكن المعلّم يومًا المصدر الوحيد للتعلم. إلى جانبه، كانت دائمًا هناك الكتب المدرسية والقواميس والموسوعات ومراجع الكتب والمجلات وغيرها. كان يُبحث فيها، أحيانًا بتخبط، عن فكرة، أو دليل، أو شرح، أو توثيق. الذكاء الاصطناعي لا يُقصي نفس المسار التقليدي لاكتساب المعرفة، فقط يختصره ويوجهه مباشرة نحو نيل المطلوب وبسرعة فائقة، ويقدّمه بشكل تفاعلي وشخصي، وغالبًا مع تفاصيل ومعلومات إضافية غير متوقعة.
إنه ليس مصدرًا للمعرفة بحد ذاته، بل دليل وغربال ثمين للبحث السريع وسط غابة هائلة من المعلومات المتاحة. وفوق ذلك، فإنه يساهم في دمقرطة الوصول إلى المعرفة.
فهل ينبغي الحذر منه إذن؟ نعم، وبالتأكيد، ولكن فقط عندما يُستخدم استخدامًا عشوائيا، كما هو الحال مع أي أداة أخرى. نعم، إذا اكتفى التلميذ بطلب الجواب الجاهز من الذكاء الاصطناعي، دون أن يطلب منه شرحًا للطريقة التي توصل بها إلى ذلك الجواب. وإذا قبل النتيجة دون أن يتعلم كيف يتعامل معها بحذر وكيف يتفاعل مع نفس الذكاء للتحقق من صحتها كما ينصح هو نفسه بذلك. أو إذا نسخها كما هي دون أن يشعر بالحاجة إلى إعادة صياغتها لتناسب السياق الذي ستدرج فيه. مثل هذا التلميذ يحرم نفسه من حيث لا يدري ولا يريد من فرص تنمية وتقوية نعمة ذكائه البشري الذي لا يمكن لأي آلة أن تعوضه في الحياة اليومية مثل ما لا يعوض كل الذكاء الاصطناعي في قمرة قيادة طائرة أو سفينة ذكاء الربان والقبطان.
لكن رفض الذكاء الاصطناعي كليًّا باسم الحفاظ على تنمية وسلامة الذكاء البشري، ليس موقفًا تربويًا أيضًا. فذلك كمن يمنع استعمال الكتب بحجة أنها تقلل من أهمية دروس المعلّم الذي ما هو إلا دليل على طريق اكتساب المعرفة، ولمدة زمنية محدودة في حياة التلميذ، قبل أن يستقلّ فبمسيرته المعرفية الذاتية. والأمر كذلك بالنسبة للذكاء الاصطناعي في اكتساب المعرفة والمهارات. حسن استخدام الذكاء الاصطناعي، هذا هو التحدي الحقيقي. وهذا أمر يمكن بل ينبغي تعلّمه ثم تعليمه. فالمسألة ليست في حضوره أو غيابه، بل في كيفية تعلم استخدامه بشكل رشيد.
تخيلوا تلميذين بنفس المستوى وفي نفس الصف ويتعلمان بنفس الجدية. أحدهما يُشجَّع على استخدام الذكاء الاصطناعي تحت إشراف شخص بالغ يعلّمه كيف يطرح عليه الأسئلة، ويطلب منه تبرير الأجوبة، ويتحقق من صحتها بمزيد من التفاعل مع نفس الذكاء الاصطناعي من بعد التحليل والتمحيص والنقد. أما الآخر، فيُمنع من استخدامه، ويواصل التعلم بالطرق التقليدية.
في البداية، قد لا يبدو هناك فرق واضح بينهما. لكن إذا تعلّم الأول كيف يستفيد حقًا من هذه الأداة، سيبدأ في التقدّم بوتيرة أسرع وباكتساب كم من المعارف والمهارات أوسع، مثله في ذلك مثل من يجد من حوله عددا كبيرا من الأساتذة من مختلف التخصصات وعلى استعداد لخدمته في كل حين ومن دون إحراج ولا ملل ولا كلل.
أما الثاني، فسيُصبح ضحية تأخير لا مبرر له، ليس لأنه كسول، بل لأنه حُرم من استخدام أداة أصبحت مركزية في عالم اليوم، وستكون مركزية أكثر فأكثر في عالم الغد. السفر بالقطار السريع أو بالسيارة، الخيار واضح، خاصة إذا كان القطار مجانيًا. وللذكاء الاصطناعي هذا الامتياز الذي ليس للقطار، فهو حقا بالمجان ومتاح في كل وقت وحين، بشرط التوفر على حاسوب أو هاتف نقال. فما الداعي للحرمان من الاستفادة منه؟
وهنا يتّضح أن دور الآباء والمدرّسين ليس تكميليًا، بل تأسيسي ومحوري. إذ ينبغي أن يتعلّموا كيف يربّون الأطفال على استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل واعٍ ومدروس، وأن يعلّموهم كيف يسيطرون عليه بدلاً من أن يتركوا له زمام القيادة فيسوقهم حيثما اتفق، بخيره وشرّه. وهذا هو الهدف من كتابة هذه المقالة ونشرها.
ولتحقيق ذلك، تبرز الحاجة الملحّة إلى تنظيم دروس مسائية أو ورشات تدريبية مخصّصة للآباء والمربين، تحت إشراف أصحاب الخبرة التربوية في هذا المجال، تهدف إلى تمكينهم من توجيه التلاميذ نحو الاستخدام الرشيد للذكاء الاصطناعي. فالمطلوب ليس أن يصبحوا خبراء تقنيين، بل أن يغدوا مرجعيات موثوقة يستأنس بها الأطفال في البيت والمدرسة على السواء.
فالذكاء الاصطناعي بات حاضرًا في كل زمان ومكان، ولن يتراجع، بل سيفرض نفسه أكثر فأكثر في شتى مجالات المعرفة ومناحي الحياة. ومن ثمّ، فإن إعداد المربّين، من آباء ومعلّمين، لمواكبته بعقلانية ووعي لصالح الناشئة، خيرٌ من تركها تائهة فيه بمفردها.
والمسألة لا تتعلق فقط بكيفية استخدام الذكاء الاصطناعي، بل تشمل أيضًا أخلاقيات هذا الاستخدام، وضرورة اعتماد أسلوب راشد في التعامل مع المعرفة التي يُنتجها. وهذا لا يخصّ المتعلّمين وحدهم، بل يشمل المربّين أنفسهم، لأنهم المؤتمنون على تهيئة الناشئة لهذا العالم المتغيّر.
ينبغي أن يكون الذكاء الاصطناعي رفيقًا نافعًا في مسيرة التعليم والتعلّم، شريطة أن تُحدّد الوجهة ويُعرف الطريق إليها. أما إذا استُعمل بغير وعي، فقد يصير أشبه بمركبة بلا سائق، تندفع بمن فيها إلى المجهول، بخيره وشره
إن تعلّم الكبار، ثم تعليم الصغار، كيفيّة الاستخدام السليم للذكاء الاصطناعي، هو السبيل لترسيخ الوعي بأنه ليس خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا، وليس بديلًا عن الذكاء البشري، بل مساعدًا له، تمامًا كما تعين التكنولوجيا الربان في قيادة الطائرة أو السفينة. كل شيء يتوقف على طريقة التعلّم، وجودة التعليم، وصدق التوجيه. ومن هنا، فإن تكوين الآباء والمعلّمين على مرافقة الناشئة في هذا المسار لم يعد ترفًا، بل ضرورة ملحّة لا غنى عنها..
المصدر: هسبريس