معطى مالي و ثقافي مهم: وصلت مداخيل صندوق التنمية الثقافية برسم سنة 2023 حوالي 1،3 مليار درهم. تشكل مأثر مراكش أكبر مساهم في تمويل هذا الصندوق بنسبة تتجاوز 80%. و تستفيد منه بالشيء القليل جدا. و هناك تفاصيل عن المشاريع الممولة بأموال مراكش في كافة أنحاء الوطن. ( تقرير الحسابات الخصوصية للخزينة لسنة 2025)

مراكش لا تغتني بمداخيل سياحتها و مآثرها التاريخية. ملايين السياح الواصلين إليها يصرخون بأصوات تنتقد محدودية خدمات مطارها. و سماء مراكش تشهد اكتظاظا طيلة اليوم بين إقلاع طائرة و هبوط أخرى و ضجيج محركات يصل إلى أغلب الفنادق. تحولت بيوت في أحياء شعبية إلى ملاذات لسياح أجانب فقراء تجبرهم مواردهم المحدودة على المبيت في غرف ضيقة، و تناول وجبات بعشر دراهم. و أنت تمشي في المدينة، تشعر أن السياحة بخير، و أن الملايير يسجلها مكتب الصرف. الأمر فيه كثير من العبث. كان الإختيار في السبعينات يركز على إستقبال السياح في الفنادق المصنفة، فأصبح عدد السياح أفضل من حجم مداخيلهم في 2025. يقع هذا في مراكش و في مدن أخرى. و تبين الإحصائيات أن السائح المغربي لا يحصل على التأشيرة إلا إذا أدلى بشهادات تؤكد دخله و قيمة سكنه، و مستوى تأمينه الصحي. و سيظل المغرب يستقبل فقراء أوروبا دون تأشيرة و دون قيود. و الكثير من هؤلاء يقضون شهورا في بلادنا، يصطادون السمك و يبيعونه. يملؤون فضاءات ارتكاز مركباتهم، و قد يشتغلون في بيع أرقى أنواع النبيذ المهرب في مخابئ مركباتهم بإتقان. و لا نفرض عليهم أي شرط، أو أية تأشيرة. افيقوا أيها المشرعون.

اجدني غير مرتاح كلما تجولت في أزقة و أحياء مراكش و أسواقها التي تحولت إلى إتحاد متراص يمشي في نفس الإتجاه. أصبحت كل الطرق التي تربط كل الأحياء بمركزها المتكون من ساحة جامع الفنا، و فضاء ” مقدس ” يربط صومعة الكتيبة بالأحياء المحيطة بها ،متحدة خلف صورة لم تكن واحدة ابدا إلى زمن كان حيا منذ أقل من ثلاثة عقود .ضاعت كل مكونات الصناعات التقليدية التي كانت تؤثت المشهد الإجتماعي و الإقتصادي في أسواق النحاسين، و الصباغين، و التكموتيين ( صناع الجواهر)، و البلاغية، و تجار الزرابي، و صناع الجلود، و غيرهم من منتجي الفن الراقي المرتبط بالمقاعد الجلدية المسماة ب” البووفة” التي لا علاقة الا بفن الطرز و العلم الدقيق بمقاسات الزوايا فوق مادة صعبة على غير العارفين.

أرتاح نسبيا حين أرى أن ورشا يهم ساحة جامع الفنا قد انطلق بجد و ببرنامج تنفيذ قد يؤمن إعادة الوهج إليها بعد شهور. و اجدني متأسفا على الدمار الثقافي الذي أصاب هذه الساحة بعد أن غابت مكونات الرأسمال اللامادي الذي تضمه هذه الساحة. حاولت مؤسسات متاحف المغرب تحويل المقر الجميل لبنك المغرب الذي يتوسط الساحة إلى متحف ، و لكن الإستثمار كان أهم من نتائجه. صرفت الأموال لكي يتم تجميع ذاكرة مكان، و لكن النتيجة لم تكن في مستوى إعادة الروح إلى ماض تولى. المتحف جميل و لكنه فقير على مستوى إعادة إحياء الصورة و الصوت و تذكير مواطن أو زائر بماض قريب جدا. و ستظل ساحة جامع الفنا في ملك ثقافة السندويتش و العصائر و شيء يسير من تجارة سلع، قد تصبح بعد سنين، صينية الصنع، و غير ذات ارتباط بما تم تقليده و تشويهه من سجاد، و بلغة و فخار و فن تقليدي مغربي.

أصبح من الصعب أن تتجول في المدينة التي كانت تسمى بالحضرة المراكشية. قد تجتاز دروبا و زقاقا، و تجتذبك أبواب رياضات و متاجر من الطراز الرفيع، و أخرى تعد بالعشرات و المئات، و قد تخفي عنك مداخل ضريح سيدي عبد العزيز التباع، ضريح ” مول القصور الغزواني” ، و قد لا تثيرك روائع الزخرفة على الخشب التي تميز ” سقاية اشرب و شوف”. قد تمر بمدخل حومة ” المواسين ” و لا ترى تلك المعلمة التي كانت تشكلها ” سقاية المواسين”. و نفس التغييب يطال السقاية التي توجد خلف مسجد باب دكالة. و وجب التذكير أن هذه المعلمة تاريخية بامتياز تجاوز عمرها ستة قرون. و لأن النساء كانت، عبر حقب التاريخ ذوات مبادرات خلاقة، فقد بنت السيدة الحرة ميلودة التزكيطية ذلك المسجد الكبير. و يجدر بالذكر ،حسب المؤرخين، أن هذه السيدة هي والدة الملك أحمد المنصور السعدي.

و تظل مراكش اليوم تحجب تاريخها بحاضر يخاطب البطون و الدود عن مسارات تؤدي إلى اغتناء سريع و غير منتج لكثير من الوصوليين المتحزبين نفاقا.

أصبحت المطاعم الشعبية تصنع ” مذاقا” جديدا يصل إلى جيوب سياح أجانب فقراء في المظهر. تستولي هذه المطاعم على كل الطرق المؤدية إلى مركز المدينة القديمة. و لا حاجة إلى إثارة انتباه المسؤولين على مستوى حماية المستهلك من التسمم الغذائي. نوجد على أبواب تظاهرات رياضية، و وصول جماهير من دول كثيرة قد تكون راغبة في تناول وجبات الأكل السريع الموجود في الشوارع و الازقة. و لا يمكن أن لا نتوقع حدوث التسممات الغذائية أثناء إجراء مباريات كأس أفريقيا أو كأس العالم. و يظل الأهم هو أن مراكش ” العالمية” أصبحت تتميز بكونها عاصمة السياحة لفقراء العالم. و لن يدخل مهندس و لا طبيب و لا مقاول و إطار عال مغربي إلى دول ” شنغن ” الا إذا قدم البرهان و الوثيقة على أنه ذو دخل يفوق دخل المواطن الأوروبي، و أنه يحمل معه وثيقة حجز فندقي، و أموال كثيرة. يحصل هذا في وقت يزدحم فيه آلاف الأجانب في محطة وصول مطار المنارة. يشتكون من الازدحام، و معاملة سائق الطاكسي. و حين يخرجون يتجهون إلى النوم جماعة في غرفة لا يتجاوز سعرها عشرين يورو. و يقصدون عند الصباح مطعما شعبيا لا يكلفهم أكثر من يورو واحد كتكلفة فطور بالبيض و ” الخليع ” و كأس شاي و زيتون و عصير. و لا نجد من يدافع عن سمعة البلاد، و يحصنها من آثار سياحة لا فائدة منها. كفى من شعار ” المغرب المنفتح على الجميع “. نريد أن تكون السياحة ذات مردود اقتصادي حقيقي. لا يجب أن نضع الأهداف بمنطق عدد السياح، و لكن بقاعدة مجموع مداخيل القطاع ككل. أفتخر مسؤولو السياحة بارتفاع عدد السياح بأكثر من 22 %، و لم يعلقوا على التأثير الضعيف لهذا الارتفاع على مستوى المداخيل التي لم تتجاوز 2،4 % خلال الأشهر الثلاثة الأولى لسنة 2025 . وهذا مؤشر خطير بكل المقاييس. نريد أن نكون اقتصادا صاعدا، و ليس مجرد مؤشر قابل لقراءة لا تؤثر على معدلات التنمية.

هربت من الازدحام في سوق السماريين مرورا ” بالرحبة القديمة” ، ثم الرجوع إلى ما كان يسمى ” بسوق الصباغين ” ، و أصحاب المهن المتعلقة بصناعة

النحاس. و ما من مراكشي أصيل قد ينسى تلك الايقاعات التي تحدثها مطارق معلمي ” النحاس” على الاسماع بمجرد الخروج من سوق الصفارين. و عند باب هذا السوق، تصطف بعض الدكاكين التي كانت مختصة في كل العقد و الخيوط التي يحتاجها ” المعلمين ” في خياطة الجلباب و القفطان و الدراعية، و السروال القندريسي، و غيرها من الفنون الجميلة، لتتحول إلى متجر يقدم سلعا أصبح يبيعها أصحاب مئات من الدكاكين الصغيرة. صحيح أن هذا التشويه الذي أصاب مراكش يمكن بعض الفئات من دخل يومي في إطار اقتصاد غير مهيكل، لكن التنمية تحتاج إلى تنزيل سياسات، و حكامة تغير الواقع و لا ترمي إلى التعايش مع مظاهر الهشاشة و هدر إمكانيات صنع الثروة.

و يظل عشق مراكش يدفعك إلى أن تبحث عن ما يحيي فيك أملا في مستقبل. فرحت كثيرا حين زرت ورشين يتعلقان بمراب أول قرب ساحة البريد، والآخر قد يفتتح في عرصة المعاش. و لكن الساحة الكبيرة لباب دكالة تظل نقطة سوداء في النسيج المعماري و التاريخي لمراكش. أشعر بحزن كبير حين أرى كل مظاهر التخلف تسكن هذا المجال الذي يوجد بالقرب من أسوار مراكش التاريخية. باب دكالة أصبحت، بفعل الفوضى التي تسكن اقتصادها، و معمارها و تراجع مستوى نظافتها ، و مسافة بعدها عن حضارة مدينة كانت عاصمة إمبراطوريتين ، عبارة عن نقطة سوداء في قلب مراكش. غلبت على أمرها مجالس مراكش الترابية و كذلك العمال و الولاة . تم بناء محطة طرقية عصرية قبل أكثر من أربع سنوات ، و ظلت طريق الوصول إلى التنفيذ مكبلة بقيود لا يعرف من يتحكم في قرار حسم مصير استثمار كبير في ظل قرار غائب و خوف من ردود فعل مفترضة. و في إنتظار انعتاق باب دكالة من تخلف يرجعها إلى قرون مضت ، لا يزال المراكشيون وخصوصا أصحاب الخبرة ، و أصحاب الغيرة على المدينة، و ذوي ” البطون الفارغة من الحرام ” يغيبون، مضطرين غير مخيرين ” عن عراك يؤدي بهم إلى مركز القرار. و يرتكز المتحكمون على ” متعطشين للثروة يقبع جلهم في السجون. و ستتواصل مسيرة محاسبة الفاسدين الذين يغتنون بدون وجه حق. يظهر أن سجن مراكش قد يستقبل من تسببوا في عدم إقلاع التنمية في هذه المدينة العريقة.

قال لي أحد حكماء المدينة أن إحدى مشكلات مراكش تكمن في غياب المراحيض العمومية. و أؤكد، بحكم مولدي بهذه المدينة العظيمة، أن الوصول إلى المراحيض كان يسيرا، و ذلك لأن الأجداد كانوا يعيرون لمبدأ النظافة أهمية تكاد أن تكون مقدسة. و لا يمكن عدم ربط هذا المعطى الموضوعي بتطور قطاع السياحة، و كذلك بالتزامات المغرب الرياضية القارية و العالمية. أؤكد أن الإرادة عنصر أساسي، في تغيير الواقع.

تظل المراحيض العمومية موضوعا يشغل كل من له موقف من مراكش كقطب حضاري متجدر في التاريخ. يعرف المراكشيون ذوى الجدور أن كل الحومات كانت لها مراحيض عمومية سواء كانت متعلقة بمسجد، أو مفردة كمرفق عمومي. و أتذكر كثيرا من هذه المرافق في كثير من أحياء المدينة. و قد تصل القدرة على الاستهانة بهذه القضية إلى حد الاستهزاء من طرف من سيطروا على مؤسسات ألمدينة و ضعفها، أي ضعفهم، على صنع بديل لرفع الحرج على أجيال من أبناء مراكش. و ليس كل أبناء الحمراء ممن يستغلون شعار: ” ديما كوكاب ” لضمان حضور في مضمار السياسة. سيشكل المستقبل القريب ثقيلا على أصحاب الوعود و الخطابات الرنانة . و سيظل الهم الوطني فوق كل الوعود. يعرف كل من ساهم في صناعة خارطة سياسية أن الأمر له علاقة مع الأخلاق أولا و أخيرا. بدأت المؤامرة التي تعرضت لها المدينة الحمراء بعد أن هجم على مؤسساتها الترابية سرب من قليلي التكوين و الخبرات. حدث بها كل هذا، و كل السلطات المكلفة بالوصاية تتفرج منذ أن صارع الوزير البصري من أجل تنزيل قانون تنظيم الجماعات الترابية سنة 1977. ظهرت كائنات صنعتها الإدارة، و تطور إيقاع الصنع المنفتح على كل الممارسات التي اوصلتنا إلى هذا اليوم الذي أثقلت فيه ملفات الفساد كل هيئات الرقابة، و المحاكم المالية.

ستظل مراكش محتاجة إلى تنظيف ساحاتها من سماسرة العملية الانتخابية. يقول زعماء اليوم أن نخبة مراكش تستخف بالممارسة السياسية. ينتظرون من المثقفين أن ينزلون إلى حضيض التراشق بالسباب ، و تعريض عائلاتهم إلى الاعتداء النفسي الذي يمكن أن يتطور إلى الاعتداء الجسدي. و يتطور الخطاب حول الديمقراطية في مسار مناقض للأهداف التي سطرتها مقتضيات دستور 2011. و تمر السنوات سريعة بين انتخاب و آخر، و يظل المسيطر المدعوم، و الذي لا يخضع لأية محاسبة، هو صاحب الأمر. و هكذا ضيعنا زمنا سياسيا جعل بلادنا تفقد كثيرا من المسافات المؤدية إلى التنمية. شاهد أبناء جيلي صورا عن حرب في فيتنام إنتهت بانسحاب أمريكا سنة 1971. و أصبحت هذه البلاد، التي أطلقت عليها كل أنواع القنابل الأمريكية، تحقق ناتجا إجمالي خاما بقيمة 500مليار دولار. و لم يتجاوز نفس هذا الناتج في بلادنا 160 مليار دولار في سنة 2024. و تظل مشكلتنا هي حكامة لا تنتج الثروات ، و لا تحمي ثروات البلاد، و لا تقضي مطلقا على اقتصاد الريع، و لا تنتح سلاحا فتاكا ضد الفساد. مراكش تحتاج إلى جيل جديد من الفاعلين السياسيين الذين يؤمنون بالمحاسبة، و تقديم نتائج عملهم أمام السكان، و إذا اقتضى الحال، أمام القضاء.

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.