أمد/ انهيار استراتيجي في البحر الأحمر
في تطور يعكس تصاعد التحديات الاقتصادية والأمنية التي يواجهها الكيان اللقيط، أعلنت بلدية مدينة إيلات الاسم العبري المفروض على أم الرشراش الفلسطينية المحتلة عن إغلاق ميناء إيلات بدءًا من يوم الأحد، 20 يوليو 2025، بعد أن قامت بمصادرة حساباته المصرفية بسبب ديون ضريبية متراكمة تقدر بحوالي 600,000 إلى 700,000 شيكل شهريًا (ما يعادل 180,000 إلى 210,000 دولار أمريكي). لكن هذا الإجراء الإداري ليس سوى الغطاء الظاهري لأزمة أعمق بكثير، تتجذر في حصار بحري فرضته حركة أنصار الله اليمنية، بدعم استراتيجي من إيران، على السفن المتجهة إلى هذا الكيان المصطنع عبر البحر الأحمر.

هذا الحصار، الذي بدأ كجزء من رد المقاومة اليمنية على حرب الإبادة الوحشية التي شنها الكيان المجرم قاتل الأطفال على غزة منذ أكتوبر 2023، حوّل ميناء أم الرشراش من بوابة تجارية وعسكرية استراتيجية إلى منشأة مشلولة، تعكس تراجع النفوذ الصهيوني في واحد من أهم الممرات البحرية العالمية.

أم الرشراش: الاسم الحقيقي والهوية المغتصبة
قبل أن تُعرف باسم “إيلات”، كانت المنطقة تُسمى أم الرشراش، وهي قرية فلسطينية تقع على خليج العقبة، في أقصى جنوب فلسطين المحتلة.

خلال العهد الإسلامي، كانت أم الرشراش محطة مهمة على طريق الحجاج من مصر وفلسطين إلى الحجاز، وكانت تابعة لجنوب ولاية الشام. في عام 1949، وفي سياق النكبة الفلسطينية، احتلت القوات الصهيونية هذه المنطقة بعد عملية “عوفدا”، وأُعيد تسميتها بـ”إيلات” لمحو هويتها الفلسطينية، في محاولة لفرض رواية استعمارية جديدة.

اليوم، تعود أم الرشراش إلى واجهة الأحداث، ليس عبر المفاوضات أو الاحتجاجات، بل من خلال صواريخ وطائرات أنصار الله المسيرة، التي جعلت من البحر الأحمر ميدانًا للمواجهة ضد الكيان الصهيوني.

الأزمة المالية: أعراض وليست السبب
وفقًا لتقرير صحيفة “غلوبس” في الكيان الصهيوني ، يعاني ميناء أم الرشراش (إيلات) من أزمة مالية حادة، حيث تراكمت ديونه الضريبية لصالح بلدية( إيلات) ، مما دفعها إلى الحجز على حساباته المصرفية. لكن هذه الأزمة المالية ليست سوى نتيجة طبيعية لتوقف شبه كامل للنشاط التجاري في الميناء، الذي كان يُعد المنفذ البحري الوحيد للكيان المؤقت على البحر الأحمر.

في عام 2023، حقق الميناء إيرادات بلغت 212 مليون شيكل (حوالي 63.2 مليون دولار)، ورست فيه 134 سفينة، أفرغت حوالي 150,000 مركبة. لكن في عام 2024، انخفضت الإيرادات بنسبة 80% إلى 42 مليون شيكل فقط (12.5 مليون دولار)، ولم يستقبل الميناء سوى 16 سفينة، دون تفريغ أي مركبات. وفي النصف الأول من 2025، تدهور الوضع أكثر، حيث لم يرسُ سوى 6 سفن، مما يعكس شللاً تجاريًا غير مسبوق.

هذا الانخفاض الكارثي في الإيرادات والنشاط يعود بشكل مباشر إلى الحصار البحري الذي فرضته حركة أنصار الله، التي استهدفت السفن المرتبطة بالكيان اللقيط أو المتجهة إليها عبر مضيق باب المندب. هذه العمليات أجبرت شركات الشحن العالمية على تحويل مساراتها إلى موانئ أشدود وحيفا على البحر الأبيض المتوسط، مما زاد التكاليف اللوجستية وفاقم العبء الاقتصادي على هذا الكيان المصطنع.

دور أنصار الله: حصار بحري يغير موازين القوى
منذ إعلان حركة أنصار الله دخولها على خط المواجهة في أكتوبر 2023 لإسناد غزة ، رداً على مجازر الإبادة الصهيونية في غزة، نفذت عمليات عسكرية نوعية ضد السفن المرتبطة بالكيان المؤقت في البحر الأحمر. هذه العمليات، التي شملت استخدام صواريخ باليستية وطائرات مسيرة، لم تستهدف الميناء مباشرة فحسب، بل شكلت تهديدًا مستمرًا للملاحة في مضيق باب المندب، الذي يُعد أحد أهم الممرات البحرية للتجارة العالمية. في 15 يوليو 2025، أعلنت حركة أنصار الله عن هجوم بثلاث طائرات مسيرة استهدفت ميناء أم الرشراش وهدفًا عسكريًا في منطقة النقب، مؤكدة نجاح العملية كجزء من استراتيجيتها لدعم الشعب الفلسطيني ورفض العدوان المستمر على غزة.

هذه الهجمات أدت إلى توقف شبه كامل للملاحة التجارية إلى ميناء أم الرشراش، حيث تجنبت شركات الشحن العالمية المرور عبر البحر الأحمر خوفًا من الاستهداف. نتيجة لذلك، تحول الميناء من مركز تجاري نابض بالحياة إلى منشأة مهجورة، مما ألحق خسائر اقتصادية مباشرة تقدر بحوالي 3 مليارات دولار حتى أوائل 2024. تصريحات الرئيس التنفيذي لميناء أم الرشراش، جدعون غولبر، أكدت هذا الواقع، حيث أشار إلى أن “جميع السفن توقفت عن المرور عبر مضيق باب المندب منذ ديسمبر 2023”، محذرًا من أن استمرار الأزمة قد يؤدي إلى تسريح العمال وتدهور البنية التحتية للميناء.

إيران: العقل الاستراتيجي وراء محور المقاومة
لا يمكن فصل نجاح أنصار الله في فرض هذا الحصار عن الدعم الاستراتيجي واللوجستي غير المباشر الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية الإيرانية. إيران، كراعية لمحور المقاومة، قدمت رغم الحصار الدولي الخانق على اليمن ، دعمًا سياسيًا ومعنوياً لأنصار الله، مما مكّنهم من تطوير قدراتهم العسكرية الذاتية ، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيرة. هذا الدعم لم يكن مساعدة تقنية، لأنه بسبب الحصار كان معنوياً يعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى تحدي الهيمنة الغربية والصهيونية في المنطقة، وإعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، من واقع أن من يسيطر على مضيق هرمز وباب المندب يسيطر على العالم

من خلال عمليات أنصار الله المستمرة في استهداف ميناء أم الرشراش، ساهمت صنعاء في تحويل البحر الأحمر إلى مسرح عمليات يهدد الأمن الاقتصادي والعسكري للكيان الصهيوني، مما يعزز مكانتها، وبالتالي حليفتها طهران، كقوة إقليمية قادرة على التأثير في الديناميكيات الجيوسياسية.

التداعيات العسكرية والاقتصادية: ضربة موجعة لإسرائيل
إغلاق ميناء أم الرشراش لا يقتصر على الخسائر الاقتصادية، بل يمتد إلى التداعيات العسكرية والاستراتيجية. الميناء كان يُستخدم من قبل بحرية الكيان الصهيوني كقاعدة لوجستية في البحر الأحمر، مما يعزز قدرة الكيان اللقيط على الردع في مواجهة التهديدات الإقليمية. لكن مع توقف العمليات، فقدت بحرية هذا الكيان المؤقت منفذًا حيويًا، مما يضعف موقعها في مواجهة محور المقاومة. كما تأثرت شركة خط أنابيب أوروبا وآسيا (EAPC)، التي تعتمد على الميناء لنقل النفط الخام من أم الرشراش إلى عسقلان على البحر الأبيض المتوسط، مما يهدد سلاسل التوريد الطاقوية. بالإضافة إلى ذلك، توقفت صادرات البوتاس من شركة {إسرائيل} للصناعات الكيميائية (ICL)، التي كانت تعتمد على الميناء لتصدير منتجاتها إلى آسيا.

أم الرشراش في سياق النضال الفلسطيني
إغلاق ميناء أم الرشراش يُعد رمزًا لعودة القضية الفلسطينية إلى قلب المواجهة الإقليمية. الحصار البحري الذي فرضته حركة أنصار الله عبر القوات المسلحة اليمنية ، وإن كان عملاً عسكرياً من العيار الثقيل ، فقد كان قب كل شيء رسالة سياسية واضحة: أن الكيان الصهيوني ليس محصنًا، وأن مقاومة الشعب الفلسطيني تجد صدى في عمق المنطقة. أم الرشراش، التي سُلبت من أهلها في 1949، تُصبح اليوم رمزًا للمقاومة، حيث يُظهر الحصار اليمني أن الاحتلال لا يمكن أن يتمتع بالاستقرار الاقتصادي أو الأمني طالما استمر في عدوانه على الفلسطينيين.

بداية أفول الهيمنة الصهيونية
إغلاق ميناء أم الرشراش قد يبدو حدثاً اقتصادياً ، وهو كذلك ، لكنّه بالتأكيد مؤشر على تحول عميق في موازين القوى في المنطقة. حركة أنصار الله ، نجحت في تحويل البحر الأحمر إلى ميدان مواجهة، حيث تُفرض معادلات جديدة للردع. ما كان يُعتبر في السابق منفذًا استراتيجيًا للكيان اللقيط، أصبح اليوم رمزًا لهزيمتها، حيث تُظهر الضربات اليمنية أن الكيان الصهيوني ليس فقط معرضًا للخطر عسكريًا، بل هو أيضاً وهذا المهم ، يواجه تحدياً اقتصاديًا ولوجستيًا. فأم الرشراش، باسمها الحقيقي وهويتها الفلسطينية، تعود إلى واجهة النضال، لتؤكد أن المقاومة قادرة على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، وأن أفول الهيمنة الصهيونية في البحر الأحمر قد بدأ بالفعل.

شاركها.