أمد/ بعد ليلةٍ مثقلة بأزيز الطائرات الحربية ودويّ القصف الذي لا يهدأ، وأرقام الشهداء والجرحى التي تُحصى بالمئات كل يوم، لا يبقى أمام المرء إلا أن يعيش هواجس وكوابيس أنه الضحية القادمة؛ فليس في قطاع غزة موطئ أمان، ومخيمات النزوح هي الأكثر هشاشة، إذ إن استهداف خيمة واحدة يعني حدوث مجزرة، وسقوط العشرات من النساء والأطفال بين شهيد وجريح. كثيرًا ما يحتضن بطن الأرض الأجساد ساعات طويلة، قبل أن يبدأ الحفر لانتشالها ونقلها إلى “مستشفى ناصر” للتعرّف على الجثث والأشلاء، ثم إدراج الأسماء في قائمة شهداء اليوم.
يحمل بعض الرجال الجثمان او الجثامين لمواراتها الثرى بلا جنازة ولا عزاء.
ومما يعتصر قلبي بالالم، هو عدم قدرتنا على المشاركة في عزاء أحد من الاقارب والأصدقاء!! فالتنقل هو مخاطرة قد تكلّف المرء الحياة.
وعليه؛ نحزن ونبكي لساعات، ثم نطوي الصفحة مُكرهين، بانتظار شهيد جديد أو مجزرة أخرى.
في خيمتي المتواضعة في مخيم (منتزه النخيل للنازحين 2) بمواصي خان يونس، تتقاسم قلبي ثلاثة هموم:
أولها: مسؤوليتي عن التكية التي توفّر وجبة طعام وشراب للنازحين في المخيم وما حوله. التزامٌ فرضته علينا إنسانيتنا، ونسعى لتأمينه عبر التواصل مع أصدقاء قدامى ومناشدتهم دعم احتياجات التكية من المواد الغذائية. لكن استمرار سياسة التجويع والحصار، ونهب شاحنات الإغاثة بتواطؤ الاحتلال، أضعف قدرتنا على الاستمرار، وأجبرنا أحيانًا على تقليص خدمات التكية أو إغلاقها مؤقتًا، ما زاد الجوع والوجع وعمّق الحسرة في عيون الناس.
ثانيها: مقالات ورسائل أكتبها كجهد إعلامي، أوجّهها لجهات قد تدرك حقيقة ما يعيشه النازحون، لعلّها تجد صدى أو تنقل صورة المأساة.
تبدأ معاناتنا مع أول الصباح حين نبحث عن وجبة الإفطار. لا غاز للطهي، والمواقد بدائية تعتمد على الحطب أو بقايا البلاستيك والكرتون. الإفطار غالبًا سندويشات “الدقة والزيت”، او علبة سردين أو تونة مع كوب شاي.
في الحقيقة، لا قيمة غذائية لمثل هذه الاطعمة، وهي أشبه
بالمساعدات الأمريكية (اللاإنسانية) التي يتم تزويد النازحين بها عبر “مصائد الموت”، فهي تفتقر لأي قيمة غذائية، مجرّد “حشو معدة”. أما الغداء، فغالبًا شوربة بطاطا أو باذنجان أو كوسا إن وُجدت، وبأسعار باهظة، أو فول وفلافل. نقص الغذاء يجعل الجسد بالكاد يتحرك، فلا أبرح خيمتي، ولا أذهب حتى إلى البحر الذي لا يبعد أكثر من مئة متر.
إذا هدأت الأجواء، عدت إلى قلمي وأوراقي المبعثرة أواصل كتابة مذكّراتي، آملاً أن أنتهي منها خلال شهر أو اثنين. وأحيانًا أستقبل بعض الأصدقاء قرب الخيمة، لندردش في السياسة ونسائل أنفسنا: ما الذي يمكن أن نفعله كنخب مجتمعية أمام احتقان الناس ويأسهم من مفاوضات عقيمة لا تعمل لصالحهم بل تعطي والوقت والذرائع لنتنياهو لمواصلة مخططاته للتهجير القسري.
ثالثها: همّ الشباب الباحثين عما يسدّ الرمق، ومعظمهم من أبناء العائلة. يخرجون كل صباح لمطاردة ما يسمّى بـ”المساعدات الإنسانية الأمريكية” التي تحولت إلى “مصائد موت” يومية لخيرة شبابنا، برصاص الاحتلال . الأمهات تودّع أبناءها صباحًا بقلق، وتظل ساهرة حتى منتصف الليل في انتظار عودتهم. وبين ذهاب وإياب، يظل القلق سيد الموقف.
وقد ودعنا في مخيمنا بعض الشهداء وشاهدنا الكثير من الجرحى.
مع الغروب، يخرج الناس من الخيام يستنشقون نسيم المساء، ويتبادلون الأحاديث لتفريغ ما في الصدور: أخبار الحرب والمفاوضات، الشهداء والمجازر، ومعاناة الجوع والعطش. أحيانًا أمكث حتى منتصف الليل، أحدّق في النجوم، وأرصد حركة الطائرات والمسيرات، وأسمع أصوات الانفجارات التي لا تهدأ، تدمّر كل ما يرمز للحياة، وتزرع اليأس في النفوس حتى يفكر البعض بالرحيل القسري او حتى الطوعي، بحثًا عن حياة لا يتهددها الموت في كل لحظة.
أما الخصوصية، فهي غائبة تمامًا في المخيم؛ الضجيج لا ينقطع، الأسرار تتناثر، الصراخ والشتائم تتداخل مع بكاء الأطفال الجوعى: “أنا جوعان، بدي آكل”.
التعارك في المخيم بين الاطفال والشتائم غدت عادة يومية، وهي ليست إلا “فشّة خلق” وتنفيسًا عن الغضب.
خلال فترة النزوح، أصبت بمقدمات جلطة مرتين، ونُقلت إلى المستشفى الميداني للصليب الأحمر ومستشفى ناصر.
أجريت الفحوص، وعُدلت جرعات أدوية السكر والضغط، ونُصحت بتجنّب الانفعال، وهو ترف لا يتيحه الواقع.
ومع ذلك، فإن أكثر ما يمنحني بعض الطمأنينة والرضى الداخلي هو خدمة النازحين إنسانيًا وإغاثيًا، بفضل دعم بعض الشخصيات الإسلامية المتميزة في عطائها، والمؤسسات كهيئة الإغاثة الانسانية التركية (IHH)، والصليب الأحمر (ICRC)، و”الفارس الشهم 3″، إضافة لصديق اعتز بصداقته من الشخصيات الوطنية في قيادة تيار فتح الإصلاحي، ممن لم يبخلوا علينا بالعون طوال عامين. بذلك، استطعنا حفظ ماء وجه أهل المخيم، وتوفير حدّ الكفاية من الطعام والشراب والتعليم للأطفال.
ومع هذا، تبقى الفوضى والسرقات التي يغذيها الاحتلال، وارتفاع أسعار المواد التموينية لعشرة اضعاف احيانا، وانقطاع الأدوية والمبيدات الحشرية، لتفاقم الأمراض الجلدية بين الأطفال والنساء. باختصار، تعمل إسرائيل بشكل ممنهج على سحق إرادة البقاء، لتقول لنا: لا مقام لكم هنا!