أمد/ في قلب غزة، حيث يختنق مليونا إنسان تحت وطأة حصار لا يرحم، تتكشف واحدة من أبشع فصول الإبادة الجماعية في العصر الحديث. ليست القنابل وحدها من تقتل، بل الجوع الممنهج، والعطش المتعمد، والنسيان الدولي الذي يغلق الأبواب بوجه شعب أعزل. غزة تموت بصمت، ليس تحت الأنقاض فقط، بل في كل مطبخ خاوٍ، وفي عيون الأطفال الذين أضعف الجوع حتى دموعهم.

الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع، تجري بتواطؤ العالم وصمته أمام إبادة تُنفَّذ ببطء قاتل.

غزة: سجن مفتوح، ومطبخ مغلق

في غزة، أصبح الجوع عنواناً وخطة و سياسة ممنهجة تُنفَّذ بدقة عسكرية. منذ بدء الحصار المشدد عام 2007، فرض الكيان الصهيوني قيودًا صارمة على دخول الغذاء، الدواء، الوقود، وحتى المواد الأساسية للحياة. المعابر مغلقة أو شبه مغلقة، والمساعدات الإنسانية تُمنع أو تُقلَّص إلى الحد الأدنى. الأرقام التي تتسرب من المؤسسات الصحية الفلسطينية، قبل استهدافها بالصواريخ أو انقطاع الكهرباء عنها، تُظهر حجم الكارثة: 400 شخص يموتون يوميًا بسبب الجوع وسوء التغذية، معظمهم أطفال، كبار سن، ومرضى عاجزون عن الحصول على دواء أو حتى قطرة ماء نظيف.

الأمهات في غزة، في محاولة يائسة لخداع أطفالهن الجياع، يطهون الماء مع التوابل على مواقد بدائية، ليوهموا الصغار بأن هناك “شيئًا على النار”. حليب الأطفال، إن وُجد، يُباع في السوق السوداء بأسعار خيالية تفوق قدرة العائلات المحاصرة. الماء النظيف نادر، والمياه الملوثة أو المالحة باتت الخيار الوحيد، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض المعوية والجلدية، خصوصًا بين الأطفال الذين تضعف مناعتهم يومًا بعد يوم.

إبادة بطيئة: الجوع كسلاح حرب

الكيان الصهيوني لا يكتفي بتدمير البنية التحتية والمنازل، بل يستخدم الجوع كسلاح دمار شامل نوعي في حرب ممنهجة. منع المساعدات الإنسانية، قطع الوقود، وتدمير المستشفيات والمخابز والمصانع الغذائية، كلها جزء من استراتيجية تهدف إلى خنق مليوني إنسان في قطاع غزة. حتى الصيادون الفلسطينيون مُنعوا من الوصول إلى البحر، مصدر رزقهم الرئيسي، مما جعل الأسماك، التي كانت يومًا وجبة أساسية، رفاهية بعيدة المنال.

الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان تصف الوضع بـ”الكارثة الإنسانية”، لكن تقاريرها لا تتجاوز عبارات “القلق البالغ” و”الدعوة إلى التهدئة”. في المقابل، يواصل الكيان المجرم سياسة العقاب الجماعي، حيث تُدمَّر الأراضي الزراعية، وتُمنع شاحنات المساعدات، ويُحرم السكان من أبسط مقومات الحياة.

هذه حرب إبادة جماعية تُنفَّذ على مراحل، ببطء شديد، بعيدًا عن عدسات الكاميرات، لتضمن أقل قدر من الضجيج الإعلامي.

صمت العالم: ضمير متجمّد

أين العالم من غزة؟ أين الضجيج الإعلامي الذي رافق أزمات أخرى مثل أوكرانيا أو غيرها؟ لقد غطت وسائل الإعلام الدولية أزمات أقل فظاعة بتغطية مكثفة، لكن غزة تُترك لتموت في صمت. العواصم العربية والغربية، التي تتشدق بالإنسانية، توقّع اتفاقات تجارية وتصدير الغاز مع الكيان الصهيوني، بينما يُحرم سكان غزة من لقمة الخبز. المنظمات الدولية توثّق وتسجّل، لكنها تظل عاجزة عن كسر الحصار أو إجبار إسرائيل على السماح بدخول المساعدات.

هذا الصمت ليس عفويًا. إنه نتيجة ضغوط سياسية، ومصالح اقتصادية، وتواطؤ ضمني مع المحتل. بينما يُصوَّر الفلسطيني في الإعلام الغربي كـ”تهديد”، تُطمس معاناة الشعب الفلسطيني، ويُحوَّل الجوع إلى مجرد “أزمة مؤقتة” بدلاً من وصفه كما هو: إبادة جماعية بطيئة.

غزة تقاوم: إرادة لا تموت

رغم كل هذا العذاب، تبقى غزة رمزًا للصمود. من بين الحطام والجوع، تولد إرادة لا تُقهَر. الأمهات يخترعن طرقًا لإطعام أطفالهن، الشباب يبتكرون وسائل لتوليد الكهرباء من الخردة، والأطفال يواصلون تعليمهم تحت القصف. هذه الروح هي ما يخشاه المحتل: شعب لا يستسلم، سنديانة لا تجف مهما عطّشوها.

في كل بيت غزّي، هناك قصة مقاومة. الأب الذي يمشي كيلومترات بحثًا عن رغيف خبز، الأم التي تزرع الخضروات في أنقاض منزلها المدمر، والطفل الذي يحلم بغدٍ أفضل رغم الجوع. هذه ليست قصص خيال تروى للأطفال قبل النوم ، إنها شهادات على أن غزة، رغم كل شيء، ترفض الموت.

دعوة إلى اليقظة

السؤال الملحّ الآن هو: من سيوقظ ضمير العالم؟ من سيكسر هذا الصمت المخزي؟ غزة لا تطالب بالكرامة فحسب، بل بالبقاء. إنها دعوة إلى كل إنسان، كل صحفي، كل ناشط، لكسر جدار الصمت، وفضح هذه الإبادة البطيئة. إنها دعوة لفتح الأبواب المغلقة، وإدخال المساعدات، وإعادة الحياة إلى شعب يستحق أن يعيش.

غزة يٌراد لها أن تختفي من الخريطة، لكنها قلب ينبض بالصمود.

وإذا كان العالم قد أغلق بابه، فإن إرادة غزة تفتح نافذة أمل، تنتظر من يمد يده ليشاركها الحياة.

شاركها.