يتشبث طيف من الحقوقيين والمنظمات النشطة في مجال الحريات بمبادرة رسمية تمكّن من إحالة مشروع قانون المسطرة الجنائية، المصادق عليه مؤخرًا من قبل البرلمان، إلى المحكمة الدستورية بهدف فحص مدى دستورية مضامينه.
وتعززت هذه المطالب أكثر بعد الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها راشيد الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب، الذي أحال مشروع قانون المسطرة المدنية إلى القضاء الدستوري، مما نتج عنه رفض مجموعة من مقتضياته.
ومما يبرّر ذلك بشدة، وفق حقوقيين، ارتباط هذا القانون بحق الأفراد في المساواة أمام القانون، فضلًا عن تضمّنه مقتضيات اشتعل النقاش بشأنها خلال الأشهر الأخيرة، لا سيما المادتان 3 و7، اللتان تضبطان تحرك النيابة العامة بشأن الملفات المتعلقة بالمال العام والفساد، وأيضا انتصاب الجمعيات طرفا مدنيا في هذا النوع من القضايا.
صلاحيات الإحالة
ويشير الفصل 132 من دستور المملكة الصادر في 2011 إلى أنه “يُمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، وخُمس أعضاء مجلس النواب، وأربعين عضواً من أعضاء مجلس المستشارين، أن يحيلوا القوانين أو الاتفاقيات الدولية، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، أو قبل المصادقة عليها، إلى المحكمة الدستورية لتبت في مطابقتها للدستور”.
ضغط حقوقي متواصل
وفي هذا الصدد طالب “تحالف ربيع الكرامة” المحكمةَ الدستورية بـ”ممارسة رقابة استباقية على قانون المسطرة الجنائية الجديد لإسقاط كل المقتضيات التي تنتهك مبدأ المساواة وحماية الضحايا”، موجهاً نداء إلى كل البرلمانيين لتحمل مسؤولياتهم التاريخية في حماية الحقوق والحريات، وضمان حق الجمعيات في الترافع ومحاربة الفساد”.
وأكد التحالف، في بيان له، رفضه القاطع لمجموعة من المواد التي “تكرس التمييز والإقصاء تجاه الحركة الحقوقية والنسائية في سعيها للانتصاف للضحايا، خاصة المادتين 3 و7، فضلا عن باقي المواد التي تخل بمبدأ المساواة أمام القانون، مما يعيق تحقيق العدالة والديمقراطية”.
ودخل المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان (AMDH) بدوره على الخط، إذ أكد أنه ينتظر إحالة كل مشاريع القوانين على المحكمة الدستورية، بدءاً بمشروع المسطرة الجنائية، مشيرا في السياق ذاته إلى أنه قرر وضعَ خطة للترافع من أجل هذا المطلب الحقوقي الأساسي.
مبررات موضوعية وثابتة
بوصفه رئيسا للجمعية المغربية لحماية المال العام، قال محمد الغلوسي: “خضنا معركة قوية ضد سعي وزير العدل ومعه الأغلبية الحكومية لتمرير المادتين 3 و7 من مشروع قانون المسطرة الجنائية، لأننا نعتبر أن تمريرهُما يشكل مسا بالاختيار الديمقراطي كثابت دستوري، وانتهاكا سافرا لمبدأ فصل السلط؛ ذلك أن المادة 3 تجسد تدخلا سافرا للسلطة التنفيذية في السلطة القضائية، ومسا باستقلالية النيابة العامة ودورها في التصدي للجرائم، وضمنها جرائم المال العام، في تحد سافر للمقتضيات الدستورية، خاصة الفصل 107 من الدستور”.
وأكد الغلوسي، في تصريح لهسبريس، أن “المادتين 3 و7 تكرسان تمييزا واضحا وغير مقبول بين المواطنين، إذ تمنحان نخبة من المسؤولين، الذين يدبرون الشأن العام ويوضع المال العام تحت تصرفهم، امتيازا قضائيا وقانونيا، خلافا لمقتضيات الفصل 6 من الدستور، الذي يجعل المواطنين جميعا، بمن فيهم المسؤولون العموميون، متساوين أمام القانون وأحكامه”.
وبيّن أن “المادتين تتعارضان مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وتعيقان جهود مكافحة الفساد باعتباره قضية دولة ومجتمع”، مشيرا إلى ما اعتبره “تواطؤا مفضوحا داخل البرلمان لتمريرهما، رغم عيوبهما الواضحة واصطدام ما ورد فيهما بمقتضيات دستورية جوهرية؛ وهو تواطؤ يجسد إرادة نخبة سياسية مستفيدة من واقع الفساد والريع والنهب لتحصين من تُباع لهم التزكيات من المساءلة والرقابة المجتمعية والمؤسساتية”.
وقال بصريح العبارة: “نراهن اليوم على الدولة ومؤسساتها، خاصة المحكمة الدستورية، للتصدي لهذا الانحراف السياسي والتشريعي الجسيم، الذي يجسد تغول لوبي الفساد وسعيه إلى التشريع للأقلية، باستغلال سيئ وخطير للمؤسسة التشريعية، لتمرير نصوص قانونية نكوصية تستهدف تعميق الفساد والرشوة في الحياة العامة، والمس بالحقوق والحريات”.
وسجّل في ختام تصريحه أن “الأغلبية الحكومية، ومعها بعض أحزاب المعارضة، تواطأت ضد المصلحة العامة، واختارت أن تضع نفسها وسلطتها في خدمة مصالح ضيقة لفئة تسعى إلى استغلال مواقع المسؤولية لمراكمة الثروة، وهو توجه خطير من شأنه أن يعمق مشاعر الظلم والتمييز والغبن”.
نحو “فحص دستوري”
في المنحى نفسه أكدت حياة النديشي، عضو “تحالف ربيع الكرامة”، أن “المقتضيات التمييزية الواردة في مشروع القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية لا تزال على حالها، على الرغم من مرور المشروع من مجلسي النواب والمستشارين، دون إدخال التعديلات التي طالبنا بها، والرامية أساسا إلى إنصاف النساء بخصوص إجراءات ومحاور محددة”.
وقالت النديشي، في تصريح لهسبريس، إن “التحالف سبق له أن تقدم بمذكرة ودراسة مفصلتين تبرزان البنود التمييزية التي تتخلل النص القانوني ذاته، لكن لم يتم الأخذ بمضامينهما خلال مساره التشريعي”، معتبرة ذلك “تجاهلا واضحا لمبادئ الدستور، التي تنص على عدم التمييز، وعلى مقاربة النوع في السياسات العمومية”.
وأشارت إلى أن “التحالف يراهن على تدخل المحكمة الدستورية، بعد أن يُحال عليها مشروع القانون نفسه، للبت في مدى دستورية مضامينه، خاصة فيما يخص مقتضيات المادتين 3 و7، باعتبارهما مادتين يُجمع كثيرون على ضرورة إعادة النظر فيهما”.
وترى النديشي أن “مشروع هذا النص القانوني، الذي صودق عليه من قبل البرلمان، لا يوازي طموحات النساء، على الرغم من أن عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، وقف وراء إخراجه إلى حيز الوجود، المعروف بتبنيه خطا حداثيا”، مبرزة أن “النص كان نتاج توافقات حكومية معينة، بما لم يسمح بوجود لمسة حداثية بارزة، لاسيما فيما يخص استحضار النوع الاجتماعي والتمييز الإيجابي لصالحه”.
المصدر: هسبريس