أكرم إبراهيم البكري
منذ انزياح نظام البشير في أبريل 2019، بدا المشهد السياسي في السودان وكأنه يُدار من وراء ستار سميك، تُحركه أياد لا تظهر في الصورة، وتدفع بشخصيات إلى الواجهة دون أن تكون هي صاحبة القرار الحقيقي، وفي مركز هذا المشهد، ظل الفريق أول عبد الفتاح البرهان يتنقّل من موقع إلى آخر، لا كقائد يضع الخطط، بل كمأمور يؤدي ما يُطلب منه، في ترتيب لا يصنعه، لكنه يُنفذه بإخلاص بارد.البرهان يوماَ رجل مواجهة، بل ظل يتخذ خطواته متأخراَ، كمن يقرأ من نص مُعد سلفاً يتنقل بين التحالفات كمن يُؤدى دوراً في مسرح بلا جمهور بينما تحترق البلاد. الان وبعض مضي 5 سنوات من تنحي البشير اصبحت ملامح الخطة تتكشف لا في تصريحاته، بل في الأفعال التي تسبقها، وتُحاك في أماكن أخرى، حيث لا تصل الكاميرات.المرحلة الأولى الانحناء للعاصفة……..عقب سقوط النظام، لم يُظهر البرهان أي ممانعة في الانخراط في المرحلة الانتقالية. تَسلّم السلطة وهو يردد شعارات الثورة ويتغنى بلهجتها ، بينما جرت في الخفاء ترتيبات أعمق لإعادة هندسة المشهد. بدأت تحركاته خجولة، غير متماسكة، لكنها كانت كافية لإبقاء صورته على الشاشات، بينما يُعاد توزيع النفوذ خلف الستارانحنى للثورة والمد الجماهيري انحناء تكتيكي محسوب قدم نفسه كحامي للثورة، وأبدى مرونة شكلية أتاحت له البقاء ضمن واجهة المرحلة الانتقالية. لكنه في العمق، بدأ بتفكيك شركائه، وبناء مراكز قوة بديلة داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، واضعاً بذور التصدّع في جسد الشراكة المدنية العسكريةومن هنا بدأت المرحلة الثانية:باستغلال قائد الجنجويد حميدتي كأداة تصفية داخل الجيش ،وفي الخفاء، استغل البرهان صراعات السلطة الكامنة داخل الجيش، وسمح بتمدّد قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) لضرب خصومه داخل القوات المسلحة. بدأت العلاقة شراكة، لكنها كانت من طرف واحد البرهان يمنح الشرعية، ويستفيد من النفوذ، ثم يقطف النتائج بإضعاف خصومه وتوسيع سلطته على حساب الدولة وينتقل للمرحلة التاليهالمرحلة الثالثة:استدعاء أحزاب الموز وانقلابهم على الوثيقة الدستورية :ومع تصاعد أزمة حكومة الفترة الانتقالية، لجأت الخطة المرسومة للبرهان إلى خلق قوى كانت خارج المشهد الثوري الحركات المسلحة و الموقعة على اتفاق جوبا التي دُفعت للمشاركة في اعتصام القصر الجمهوري، في خطوة أعيد تسويقها استخباراتينا باسم الحرية والتغيير 2 ،هذا الاعتصام، المعروف شعبياً بـأحزاب الموز كان التمهيد لانقلابه في أكتوبر 2021، حيث جاء بيانه مطابقاً لا على مستوى المضمون فحسب، بل في اللغة والصياغة لخطاب عبد الفتاح السيسي حين أطاح بمحمد مرسي.ولعلّ اليد التي كتبت بيان السيسي الانقلابي هي نفسها التي سطّر بيان البرهان. البيان لا يُخفي اليد الخارجية بقدر ما يُكرّس لتقليد العسكر المخلِّص.المرحلة الرابعة:في أبريل 2023، تم تدشين المرحلة الرابعة حين اندلعت الحرب بين الجيش والدعم السريع، لم يعد حميدتي شريكاً تكتيكياً، بل صار عدو وجودي حينها لجأت الخطة التي كتبت للبرهان لخلق مليشيات بديلة خارج الجيش الرسمي، كـقوات درع الجزيرة وقوات الإسلاميين التي دخلت الحرب تحت مسمي البراؤون وغيرها من التكوينات القبلية والمناطقية، لتقاتل نيابة عنه البرهان وتمنحه عمقاً ميدانياً في دارفور وكردفان، دون أن يتحمل الجيش الرسمي كلفة الحرب السياسية أو الإنسانية.المرحلة الخامسة :وتأتي المرحلة الخامسة في خضم المعركة، فتح البرهان بوابات الدولة مجدداً للإسلاميين لم يكن ذلك نابعاً من تقاطع أيديولوجي، بل كخيار اضطراري في معركة استنزاف استفاد من كوادرهم التنظيمية، وخبراتهم في إدارة الدولة والدعاية والتعبئة، وأعاد دمجهم تدريجياً في مفاصل السلطة، تحت ذريعة مواجهة التمرد. وشيئاً فشيئاً عاد رموز النظام السابق كأن شيئاً لم يكن، وتمّ تقديم الحرب على أنها جهاد وطني بلباس عقائدي الى ان تضاربت تطلعات الإسلاميين مع الدور المخابراتي المرسوم للبرهان الذي لا يحتفظ بحليف أكثر مما تحتمل الخطة، فبدأ فعلياً في التمهيد لمرحلة التخلص منهم بعد استنفاد دورهم. فكما استخدم حميدتي ثم واجهه، وكما قرب المدنيين ثم أطاح بهم، يبدو أن الإسلاميين اليوم يقفون على حافة الخداع ذاته، تكشف بعض التسريبات والقرارات عن رغبة مكتومة في إعادة ترتيب المشهد، وتقليم أظافر التيار الإسلامي، تمهيداً لإنهاء دورهم، خصوصاً بعد تصاعد نفوذهم الميداني والإعلامي، وظهور خلافات داخل الحلقة الأمنية الضيقةختاماً البرهان رجل يمشي على جمر الدولة حافي القدمين فهو لا يحكم السودان، بل يدير حرائقه. يوزع التحالفات كما تُوزع أوراق اللعب في لعبة خاسرة منذ البداية. يراكم التكتيك فوق التكتيك، ويشتري الوقت بأثمان باهظة من دماء المدنيين، وانهيار الاقتصاد، وتفتت البلاد لكن رقعة النار لا تسع الجميع، وساعة الحقيقة تقترب، فهل ينجو الجنرال من جحيم خططه؟أم أن الدور سيأتي عليه، كما أتى على من سبقوه، حين تلتهم النار من أشعلها أول مرة؟
المصدر: صحيفة الراكوبة