(تقرير: SPT ترجمة الراكوبة)
تحت شمس لا ترحم، وفي أحد أسواق القضارف المتهالكة بشرق السودان، يقف طفل في العاشرة من عمره، حافي القدمين، يبيع السجائر بصمت. لا يتحدث إلا إذا سُئل، وإن نطق، جاء صوته خافتًا كأنه يعتذر.
يقول الطفل: “والدي قُتل في الدندر، فهربنا إلى هنا. أنا الآن من يحضر الطعام. لا نملك منزلاً، وأمي مريضة، تنام على الأرض في الشارع”.
في السودان، الأطفال لا يشاهدون الحرب من خلف النوافذ، بل يعيشونها من خطوط النار. لا يدرسونها في كتب التاريخ، بل يواجهونها بأجسادهم الهشة.
أكثر من 14 مليون طفل يواجهون اليوم خطر الجوع، والتشريد، والفقد، والتجنيد. إنها ليست مجرد طفولة مسروقة، بل هو جيل يُعاد تشكيله وسط الأنقاض.
منذ اندلاع الصراع في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، نزح نحو 15 مليون شخص، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
وفي دراسة حديثة أعدّتها جامعات أمريكية، قُدّر عدد القتلى بنحو 130 ألفاً، بينهم عدد كبير من الأطفال.
🔺موت تحت القصف
أواخر يونيو الماضي، تعرّض مستشفى المُجلد بولاية غرب كردفان لقصف دموي، أدى إلى مقتل أكثر من 40 شخصًا، بينهم تسعة أطفال، وفق ما أفاد شهود ومنظمات مدنية.
وحملت قوات الدعم السريع الجيش السوداني مسؤولية الهجوم، وهو ما أيدته كل من شبكة أطباء السودان ومحامو الطوارئ.
حتى الآن، لم يصدر أي تعليق رسمي من الجيش حول الحادث.
🔺مدارس مغلقة وأحلام محطمة
منذ بدء الحرب، أُغلقت نحو 10 آلاف مدرسة، وتحولت العديد منها إلى ثكنات عسكرية أو مبانٍ مهجورة.
الملاعب تحوّلت إلى ساحات قتال، والفصول الدراسية باتت تغطيها الأتربة والخوف.
تقدّر منظمة يونيسف أن نحو 17 مليون طفل سوداني انقطعوا عن التعليم، والعديد منهم قد لا يعودون إلى مقاعد الدراسة مطلقًا.
في معسكرات النزوح شرق السودان، يتجول آلاف الأطفال في الشوارع، ينامون على الحصير، بلا أغطية كافية، يتقاسمون كسرة خبز، ويقضون ساعات بانتظار دورهم للحصول على الماء.
بعضهم توقف عن الكلام منذ شهور، بعد أن شاهد والده يُقتل، أو شقيقته تُختطف، أو منزله يُقصف أمام عينيه.
يقول أحد العاملين في مركز للإيواء بولاية النيل الأبيض:
“يصلون إلينا هزيلين، مذعورين، وأحيانًا صامتين بالكامل. نسي بعضهم التعليم تمامًا، والبعض الآخر يستيقظ ليلاً وهو يصرخ. إنهم أطفال في الجسد فقط… أما أرواحهم، فهي لرجالٍ عجائز أنهكتهم الحرب”.
🔺تجنيد قسري تحت ستار الحماية
في ولايات نهر النيل والشمالية وأجزاء من دارفور وأم درمان، تشير تقارير ومصادر مفتوحة إلى تجنيد ممنهج للأطفال من قبل ميليشيات وقوات مسلحة.
يُستدرجون بوعود بالحماية، أو الطعام، أو بـ”الرجولة”. في بعض الحالات، يُجبرون على حمل السلاح، وفي حالات أخرى يُستخدمون كرسل أو حرّاس لمواقع مدمّرة.
يقول ناشط حقوقي من ولاية نهر النيل:
“نرصد أطفالًا دون الثالثة عشرة يرتدون الزي العسكري ويحملون بنادق أكبر من أذرعهم. بعضهم لا يفهم حتى لماذا يُدرَّب، أو من سيقاتل”.
في مناطق النزوح، يخشى الأهالي إرسال أبنائهم لجلب الماء أو الحطب، خوفًا من الاختطاف أو القتل.
وقد انتشرت خلال الأسابيع الأخيرة مقاطع مصوّرة تُظهر أطفالاً يخضعون لتدريبات عسكرية داخل معسكرات غير رسمية.
🔺جوعٌ قاتل
بحسب تقارير الأمم المتحدة، يعاني أكثر من 4 ملايين طفل سوداني من سوء التغذية الحاد، بينهم قرابة 700 ألف طفل يواجهون خطر الموت الوشيك إذا لم تُقدَّم لهم مساعدات عاجلة.
في الخرطوم، وتحديدًا بأم درمان، يصطف الأطفال أمام مراكز توزيع الغذاء حاملين أواني صغيرة بانتظار حفنة من العدس أو الذرة في وجبة تُعرف بـ”البليلة”، بدون خبز، أو أرز، أو أي مرافقة غذائية.
الكثير من هؤلاء الأطفال يقفون وحدهم، بلا آباء أو أمهات. مجرد صمت طويل… وجوع لا يرحم.
🔺جيل مُشوَّه قبل أن يبدأ
هذا الجيل لم يعرف اللعب، ولا المدرسة، ولا الأمان. إنه جيل ينشأ محمّلًا بآثار الحرب، نفسيًا وجسديًا، ليحملها معه لعقود مقبلة.
الصدمات المتراكمة، الجوع المستمر، والتشريد، جميعها تخلق قنبلة موقوتة في نسيج المجتمع السوداني.
تقول أخصائية نفسية تعمل مع منظمة إغاثية في بورتسودان:
“ما نشهده ليس فقط كارثة إنسانية، بل جريمة ضد المستقبل. إذا لم يتحرك العالم الآن، سنواجه جيلاً فاقدًا للثقة، والمشاعر، وربما حتى للهوية”.
🔺جرائم صادمة: اغتصاب أطفال
من أكثر الجرائم وحشية التي تم توثيقها في الحرب، تلك التي تشير إلى حوادث اغتصاب أطفال.
في إحدى الحالات المروعة، تعرضت طفلة لا تتجاوز العامين لاعتداء جنسي في أم درمان.
وفي مدينة الأبيض بشمال كردفان، أقدم رجل في الستينات على الانتحار بعد أن فشل في حماية ابنته البالغة من العمر 11 عامًا من الاغتصاب على يد مسلحين ينتمون إلى إحدى الحركات الدارفورية المسلحة.
ويتهم مواطنون محليون عناصر من هذه الحركات، التي تقاتل إلى جانب الجيش، بارتكاب جرائم اغتصاب، واقتحام منازل، وقتل من يعترض.
غير أن هذه الاتهامات لم يتسنَّ التحقق منها بشكل مستقل حتى الآن، بسبب الفوضى والخوف المنتشرين على نطاق واسع.
🔺صمت السلطات… ومصادرة الإغاثة
في بورتسودان، حيث تسيطر سلطات الجيش، لا تظهر الحكومة أي اهتمام بالأزمة الإنسانية. تُغفل المأساة، وكأنها لا تحدث.
قالت لنا موظفة إغاثة:
“كل شحنة مساعدات تمر عبر بورتسودان لا تصل إلى المحتاجين. الجيش يصادرها ويوزعها على جنوده والحركات الدارفورية الموالية له. والأسوأ أن جزءًا منها يُباع في الأسواق، دون حتى إزالة الملصقات التي تشير إلى أنها مساعدات إنسانية”.
وفي مدينة القضارف، تقول ناشطة تعمل في حماية الأطفال بالتعاون مع اليونيسف:
“الأطفال هم الضحية الأكبر للحرب في السودان. وعندما تنتهي هذه الحرب، سيكتشف السودانيون حقائق صادمة. لقد كانت، بكل ما تعنيه الكلمة، حربًا ضد الطفولة”.
🔺من يسمع؟
في ظل انشغال العالم بصراعات أخرى، تراجعت مأساة أطفال السودان عن المشهد الدولي.
لا مؤتمرات طارئة، ولا دعم إنساني كافٍ، ولا ممرات آمنة. فقط صمت طويل… وطفولة تُمحى.
جيل يُدفن حيًا… لا في المقابر، بل في الذاكرة المهزومة.
المصدر: صحيفة الراكوبة