بكري الصائغ
بينما كنت استعد لكتابة هذا المقال عن خلو تشكيلة الحكومة الانتقالية القادمة من الاقباط ، وهي الحكومة التي لم تكتمل بعد بسبب الصراع الدائر بين المنظمات المسلحة والاسلاميين علي تقسيم “كعكة” السلطة، جاء خبر في صحيفة “الراكوبة” بتاريخ يوم السبت ١٢/ يوليو الحالي، تحت عنوان “سلطات الخرطوم تهدم “الكنيسة الخمسينية””، وجاء فيه ، ان أسامة سعيد موسي كودي رئيس الاتحاد العام للشباب المسيحي صرح السلطات في ولاية الخرطوم قامت بتكسر وإزالة الكنيسة الخمسينية بالحاج يوسف شارع واحد وذلك بتاريخ ١٠/ يوليو ٢٠٢٥م، فهذه الكنيسة مكان مخصص لممارستهم العقيدة والشعائر الدينية والصلوات، واكد البيان الذي تلقى ’’ مرصد حرب السودان، أنه تم مصادرة جميع ممتلكات الكنيسة الخمسينية. وقال أسامة في البيان ’’ فإننا نهيب كل المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بإدانة هذا السلوك الخطير، وتوثيق هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الدينية الذي تعرض كنيسة الخمسينية بالحاج يوسف ‘‘. وأضاف أسامة ان الاتحاد العام للشباب المسيحي السوداني بكل مكوناتها يقف صفا واحدا امام كل محاولات الانتقاص من المكانة القانونية الممنوحة للأقليات الدينية، وحقوقهم المنصوصة عليها في الاتفاقيات الدولية.انتهي
في عام ٢٠١٧م، وتحديد ا في يوم ١٣/ مايو، كتبت مقال نشر في صحيفة “الراكوبة” وكان تحت عنوان “حكومة مكونة من اربعة وسبعين وزير ووزير دولة..مافيها ولا قبطي واحد!!”، وجاء في المقال وقتها: (منذ تشكيل اول حكومة سودانية في عهد الامام محمد احمد المهدي عام ١٨٨٥م وحتي حكومة بكري حسن صالح الاخيرة في هذا العام الحالي ٢٠١٧ اي طوال ١٣٢عامآ والاقباط في السودان مهمشيين سياسيآ عن عمد، وممنوع عليهم الاقتراب من المناصب الدستورية الكبيرة، او زعامة احزاب سياسية، وايضآ من رابع المستحيلات الترشيح في الانتخابات لشغل منصب رئيس الجمهورية!!، وان كل الانظمة السياسية التي مرت علي السودان منذ عام ١٨٨٥م حتي اليوم سواء كان النظام ديمقراطي او عسكري ابعدت الاقباط من المشاركة في اي نشاط سياسي، وقللت من عضويتهم في الاحزاب الوطنية، كان وجودهم في تشكيلات الوزارات خلال الستين عامآ الماضية (١٩٥٦ ٢٠١٧) من وزراء يعدون علي اصابع اليد الواحدة، وما من وزير منهم شغل منصب وزاري الا وكانت من الوزارات الغير سيادية ومهمشة بلا طعم ولا لون!!.
لا يخفي علي احد، ان اقباط السودان هم الفئة الوحيدة من المواطنين في البلاد الذين لا حس لهم ولا صوت في الشأن السياسي الهام، وان ابتعادهم جاء بسبب الممارسات التي انتهجتها الانظمة السابقة ضدهم وعاملتهم معاملة الاجانب ومواطنين درجة ثانية!!..وتركت لهم فقط مجال العمل في القطاع الخاص، هناك وزارات سيادية يندر ان تقبل بتعيين موظفين او حتي عمال اقباط في داخلها!!، فعلي سبيل المثال لا الحصر، انه ومنذ عام ١٩٥٦ وحتي اليوم لا تسمح وزارة الاعلام بقبول مذيع قبطي في استوديوهات التلفزيون او بالاذاعة!!، القبطي الوحيد الذي عمل بالتلفزيون في سنوات السبعينات كان الفنان الكاريكاتوري الشهير ادمون منير.
لم نسمع من قبل بتعيين سفير قبطي او قنصل عمل في وزارة الخارجية !!، ولم نسمع بتعيين قبطي في زارة الداخلية ، السم الوحيد الذي برز في القوات المسلحة كان الدكتورة أميرة ديمتري، و هي أول إمرأة تنال رتبة اللواء طبيب بالقوات المسلحة السودانية، وهي من مواليد الخرطوم، بل وحتي جامعة الخرطوم وضعت عراقيل امام الدكاترة الاقباط وحجبت عنهم الوظائف في مجال التدريس، ورغم ان الجامعة كانت ومازالت في حاجة لمن يشغل هذه المناصب الا ان العراقيل امامهم موجودة ومصانة!!
منذ استقلال السودان عام ١٩٥٦م وطوال (٦٩) عام لم يشغل اي قبطي وظيفة حساسة بالقصر الجمهوري القديم او الجديد!!، ، من الاسماء المسيحية التي شغلت منصب النائب الاول لرئيس الجمهورية ولكنهم لم يكونوا اقباط : اللواء/ جوزيف لاقو، مولانا/ ابيل الير، الفريق/ جون قرنق، وسلفا كير)،
في زمن الرئيس المخلوع، تباهى قادة حزب المؤتمر الوطني وقتها، بأن عضوي تزيد عن (٦) مليون شخص، وهو رقم يمثل حوالي خمس سكان البلاد، ورغم ضخامة الرقم الذي يفوق عدد سكان دولة قطر والامارات فلم نسمع بعضوية اي قبطي فيه!!، بل ومنذ لحظة اذاعة البيان الاول في يوم الجمعة ٣٠/ يونيو وحتي نهاية حقبة النظام السابق لم نجد قبطي واحد قد شغل منصب رفيع في الحزب الحاكم!!
من الاقباط القلائل الذين ظهرت اسمائهم وكان اشهر وزير قبطي في زمن حكم الرئيس جعفر النميري، هو وديع حبشي، وهو من أصول شامية، تسلم منصب وزير الزراعة، ثم وزيرا للري، وكان هناك ايضآ الدكتور/موريس سدرة، الوزير الانسان المحبوب عند كل السودانيين، شغل منصب وزير في وزارة الصحة سنوات الستينيات والسبعينيات.
واذا ما عدنا الي زمن الرئيس/ جعفر النميري وخاصة بعد تطبيق “قوانين بدرية سليمان” عام ١٩٨٣م، نجد ان التخريب أصاب بنية الحياة المدنية السلمية المبنية على التعايش بين الثقافات والأعراق والديانات. وأتمّ هذا الشرخ بين السودانيين خلال حكم عمر البشير، الذي لا يعترف بالتعددية. إذ أعلن مراراً أن السودان دولة عربية مسلمة، متجاهلاً الأديان والثقافات غير العربية والإسلامية. ويقول الصّحافي السوداني، والمهتم بقضايا الأقليات، عادل كلر لموقع “رصيف22”: “الأقباط مكوِّن أصيل في النسيج الاجتماعي السوداني، ويجب الحفاظ عليه وإزالة القوانين التمييزية والصادمة للمواطنة، وقانون حظر نشاط الإرساليات، الذي أصدره الرئيس الراحل الجنرال إبراهيم عبودعام ١٩٦٣لتأميم الذي بموجبه صودرت ممتلكات للأقباط عام “١٩٧٠”.
المعلومات الضرورية والهامة عن اقباط السودان قليلة للغاية بسبب التعتيم المتعمد الذي مارسته كل الانظمة السابقة والحالية، ولكن هذا لم يمنع ظهور مقالات نشرت بالصحف السودانية والقت الاضواء عنهم، في احدي المقالات كتب الأب/ فيلوثاوس فرج: (يقدر عدد السودانيين الأقباط بنحو “٣” ملايين وهم الذين يعيشون في السودان وفي دول المهجر. بينما يقدرهم آخرون، بمئات الآلاف. ويقول القس بولس فؤاد إنهم يعملون على إعادة إحصاء الأقباط، لأغراض اجتماعية. ويضيف أن سلطات السجل المدني السودانية وضعت أخيراً، الأقباط كقبيلة سودانية، أسوة بالسودانيين الآخرين، رغم أن شرط ملء خانة القبيلة عند استخراج الرقم الوطني أو الجنسية السودانية، يرفضه قطاع واسع من المثقفين والسياسيين السودانيين. ويرى القس بولس فؤاد أن تخصيص ساعة واحدة فقط أسبوعياً للأقباط على القناة الأرضية للتلفزيون، ربما لا يساعد على ترسيخ روح التعايش ومشاركة الحياة بالصورة المرجوَّة.).انتهي
اسوأ ظروف عاشتها الاسر القبطية في السودان كانت في سنوات التسعينات بعد وقوع انقلاب ٣/ يونيو ١٩٨٩، جنح وقتها “المجلس العسكري العالي لثورة الانقاذ” بالتضامن مع “الجبهة الاسلامية” الي شن حملة ضارية ضد الاقباط والمسيحيين، صادرت منهم بالقوة والارهاب الشركات والبيوت التجارية، وهدمت الكنائس الخاصة بهم واستولت علي الاراضي بعد عمليات الهدوء، اضطرت عشرات الآلاف من الاسر القبطية والمسيحية تحت الظروف القاسية الي الهرب والفرار من بطش حكم العساكر والاسلاميين، قاد الرائد (وقتها) صلاح كرار، الذي كان عضو بالمجلس”المجلس العالي لثورة الانقاذ”، وشغل منصب رئيس اللجنة الاقتصادية حملة شعواء واضطهاد ضد الاقباط باعتبارهم ركيزة اقتصادية كبيرة، فصادر منهم كل ما ينفع زملاءه الضباط في المجلس!!، اضطرت عشرات الالاف من الاسر القبطية الهجرة الي كندا واستراليا ونيوزيلاندا ولندن، وتركت هذه الاسر خلفها في السودان كل شيء، والذي اصبح غنيمة للاسلاميين!!
كتب الصحفي/ طلحة جبريل : (هاجر الاقباط السودانيون الى شتى الاصقاع يبحثون عن أوطان بديلة. عدد كبير من هؤلاء استقروا في برايتون في انجلترا ، وآخرون طوحت بهم الايام الى استراليا وكندا. في برايتون التقيت بعض الذين هاجروا الى هناك . اختاروا هذه المدينة الساحلية صدفة ، ذلك انهم اقتفوا أثر المجموعات الاولى التي ربما اختارت الاستقرار هناك.حمل المهاجرون الى برايتون كل عاداتهم وتقاليدهم السودانية وحتى موسيقاهم. ساد انطباع خاطئ مؤداه ان اقباط السودان هم امتداد لاقباط مصر. لكن هذا الانطباع ليس صحيحاً على الاطلاق . ربما يشترك الجانبان في الانتماء الى الكنيسة الارثوذكسية ، لكن عدا ذلك لا يجمع بينهما سوى ما يجمع السوداني والمصري بكيفية عامة سواء كان مسلماً أو قبطياً.
الشواهد والدلائل كثيرة على ان أقباط السودان هم سودانيون أولاً وأخيراَ . ساكتفي بواقعة واحدة . في نوفمبر عام 2005 انعقد مؤتمر في واشنطن نظمه الاقباط المصريون تحت شعار ” الديمقراطية في مصر للإسلاميين والمسيحيين ” ، وخلال أربعة ايام ناقش المجتمعون قضايا بلا حصر تتعلق باوضاع الاقباط في مصر، وحقوق الانسان وتطبيق الشريعة الاسلامية على غير المسلمين تحدث مشاركون عن ”اضطهاد الاقلية القبطية في مصر” وعن ”إجبار فتيات صغيرات على الزواج من مسلمين” و “تهديم كنائس” وما الى ذلك من أمور لا يمكن الجزم بصحتها او خطأها.
كتب جبريل: ما لفت انتباهي في ذلك المؤتمر أن قبطياً سودانياً واحداً لم يشارك فيه . كما لم يتطرق أحد أصلاً الى مشكلة الاقباط السودانيين. شاركت في المؤتمر منظمات تدافع عن حقوق الإنسان ، وشارك فيه ممثلون عن الأقلية النوبية في مصر ، وحتى يهود ليبيا، وأقباط من استراليا وكندا ومصر، بل وشارك فيه باحثون مسلمون معنيون بقضايا الديمقراطية وحقوق الأقليات . لم يجد أقباط مصر قبطاً سودانياً واحداً يشارك في مؤتمر واشنطن.ولعلهم حسناً فعلوا.
أقباط السودان جزء أصيل من النسيج الاجتماعي في بلادنا . سودانيتهم لا يجوز ولا يمكن ان تبقى محل تساؤل . بل من المعيب أصلاً طرح هذا الامر سراً أو علناً . لا يجوز لاي سوداني سواء كان في السلطة او خارجها، ان يقرر من هو المواطن ومن هو ليس مواطناً . نحن جميعاً مواطنون على قدم المساواة . نحن جميعاً رضعنا الوطنية من ثدي امهاتنا.
مساهمة الاقباط في الحياة السياسية في السودان واضحة وجلية . ساكتفي بالرموز . وإذ أحس أحد من خلال ما أكتب أن إعجابي ظاهر بحيوية هذه الشريحة من السودانيين، فهذا الإحساس صحيح ولست أداريه ولا أحاول وإنما أقر به منذ اللحظة الأولى لكي أريح نفسي وغيري.
كتب جبريل/ كان القانوني هنري رياض من أبرز القانونيين في تاريخ السودان المعاصر، رفد المكتبة بكتب مرجعية ، وترجمات ساهمت في تكوين وعي عدد لا يحصى من المتعلمين. كان شخصية وطنية من تلك الشخصيات التي يستظل الناس بظلالها الوارفة في لحظات الشدة.
*** ضمت الاحزاب السودانية شخصيات قبطية وازنة . كان هناك عبدالله النجيب في قيادة الاتحاديين ولطيف صباغ في حزب الامة ، وسمير جرجس في الحزب الشيوعي. ثم كان هناك المحامي نبيل أديب في قيادة التجمع الوطني الديمقراطي. ثقة الناس في الاقباط جعلتهم يتولون عادة وظائف الصرافة والحسابات. عدد بلا حصر عملوا داخل الخدمة المدنية قبل أن يخربها جعفر نميري تخريباً متعمداً. كثيرون عملوا في هيئة السكك الحديدية ، وكانوا وراء الانضباط الاداري الصارم لهذا المرفق. قبل أن يحطمه نظام مايو البائس .عمل الاقباط في التجارة ، وكانوا أيضاً يحظون بثقة الناس في تعاملاتهم . انتشر الاقباط في جميع الارجاء والانحاء. في العاصمة والاقاليم ، وفي معظم المدن والقرى.
في آواخر ديسمبر عام 1989م تلقى الاقباط اول إشارة من إشارات التوجه الحضاري . كانت تلك الاشارة تقول لهم كلمة واحدة قاسية ومريرة : أرحلوا . كان بداية لليل طويل حالك. كان هناك من يريد أن يثبت فعالية البطش، وفي كل الاتجاهات. صدرت الاشارة من محكمة في الخرطوم . تلك المحكمة أطلق عليها ” المحكمة الخاصة”.
كتب جبريل/ مثل مساعد طيار سوداني يعمل في الخطوط السودانية يدعى جرجس القس بسطس امام تلك المحكمة . كانت التهمة هي تخريب الاقتصاد الوطني وخرق قانون التعامل بالنقد الاجنبي . قال الادعاء في المحكمة إن مساعد الطيار جرجس ضبط متلبساً بمحاولة تهريب حوالي 95 الف دولار مع شيكات بمبلغ 800 دولار ، وشيك آخر بمبلغ دولاراً 150 و175 ريالاً سعودياً و 840 جنيهاً مصرياً . لم تستغرق محاكمة جرجس طويلاً ، وصدر ضده حكم بالاعدام شنقاً حتى الموت . نفذ فيه حكم الاعدام فجراً في سجن كوبر في فبراير عام 1990م . تعرض جرجس الى إهانات بالغة وتعذيب قاسي خلال فترة اعتقاله ، كما تعرض لضغوط نفسية رهيبة ، حيث كان يستدعي عدة مرات على اساس ان ينفذ فيه حكم الاعدام لكنه يعاد الى زنزانته. ومرة اخرى كانت الرسالة واضحة وصريحة لجميع الاقباط : أرحلوا.
ختم جبريل المقال، وكتب/ شنت حملة نفسية تضغط على كثيرين ليس فقط بأن يبتعدوا عن الطريق وينزون في جحور ، بل يرحلون . كانت هناك مشاعر قلق آخذة في التزايد وسط الاقباط من ان البلاد في طريقها للانزلاق نحو حكم سيكون أقل تسامحاً . ولسوء الحظ كانت هذه المشاعر لها ما يبررها على ارض الواقع. بدأت مضايقات علنية واخرى تتم في الخفاء . لا أحد كان يدري لماذا استهدفت حملة التهجير القسري الاقباط على وجه التحديد . لكن ذلك قد حدث . حدث بكيفية واضحة لا لبس فيها . أجبر كثيرون على ترك وظائفهم وتجارتهم . واضطر كثيرون على بيع ممتلكاتهم باسعار بخسة . وخرج الاقباط موجة تلو موجة. وتشتتوا في جميع اصقاع الارض . لكن حنينهم الى وطنهم انتقل معهم الى حيث رحلوا . وشكلوا في كثير من الاحيان مجمتعات الشتات مع باقي ابناء وطنهم .
انتهي مقال الاستاذ/ طلحة جبريل
جاءت الاخبار اخيرا في الصحف والمواقع السودانية وافادت، ان الصراع قد اشتد بصورة ضارية بين المتكالبين علي اقتسام الوزارات في الحكومة القادمة، ابرز مافي هذا الصراع ان بعض الحركات المسلحة تصر علي حصولها وزارات سيادية ذات ثقل مثل المالية والطاقة والتعدين وانها لا ترضي باي حال من الاحوال بوزارات هامشية “الكاش” فيها قليل!!
بالطبع، هناك حقيقة لا تقبل الجدال، انه في ظل هذا الصراع الذي تشارك فيه (٨٥) من المنظمات والحركات مسلحة، وانحياز البرهان انحياز واضح لتنظيم “الحركة الاسلامية” وجماعة علي كرتي، انه لن تكون هناك اي فرصة ولو بنسبة (١%) بتعيين وزير قبطي في الحكومة القادمة ، بل ولا حتي تعديل في الدستور والقوانين واللوائح يتساوي فيها الجميع.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة