البرهان وتنازلات اللحظة الاخيرة.. السلطة مقابل البقاء
حسب الرسول العوض إبراهيم
منذ الإطاحة بعمر البشير في أبريل 2019، دخلت القوى المدنية في شراكة سياسية هشة مع المكوّن العسكري بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بهدف إدارة الفترة الانتقالية وصولًا إلى الحكم المدني الكامل. غير أن البرهان، ومنذ الأيام الأولى، لم يُخفِ رغبته في البقاء في السلطة، وسعى لذلك باستخدام مزيج من التكتيكات الناعمة والخشنة، معتمدًا على سياسة المراوغة، ولعبه المستمر على تناقضات الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء.
وقد ظهر هذا التوجه جليًا عندما تراجع عن التزامه بالاتفاق مع قوى الحرية والتغيير عقب مجزرة فضّ اعتصام القيادة العامة، محاولًا التنصل من المسؤولية وإرباك المشهد السياسي. لكن الشارع السوداني خرج في 30 يونيو بمواكب مليونية أربكت حساباته، وأجبرته على العودة إلى طاولة التفاوض. وتحت ضغط داخلي وخارجي، وُقّعت الوثيقة الدستورية التي نظّمت العلاقة بين المدنيين والعسكريين، ونصّت على تقاسم السلطة، حيث يتولى العسكريون رئاسة المجلس السيادي في النصف الأول، ثم تنتقل إلى المدنيين في النصف الثاني.
غير أن العلاقة بين الطرفين لم تسر بسلاسة، إذ سرعان ما بدأت الخلافات تخرج إلى العلن، وانكشفت التباينات العميقة في الرؤية والأولويات. وما أن اقترب موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، حتى أقدم البرهان على تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، بالتحالف مع قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في محاولة لقطع الطريق على الانتقال المدني الكامل.
لكن الانقلاب لم يحظَ بالقبول لا داخليًا ولا خارجيًا، ووجدت السلطة الانقلابية نفسها معزولة ومأزومة. ووسط هذا الانسداد، لجأ البرهان مجددًا إلى القوى المدنية، ولوّح بقبول العودة إلى الشراكة، في محاولة لامتصاص الضغوط واستعادة شرعية مفقودة. وهكذا وُقّع “الاتفاق الإطاري” في أواخر 2022، برعاية إقليمية ودولية، وبحضور واسع من القوى السياسية والمهنية، وكان أبرز ما فيه هو النص على خروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي نهائيًا، ومعالجة قضية تعدد الجيوش، وبناء جيش وطني موحّد، وهو ما أثار قلق البرهان، وغضب الإسلاميين الذين رأوا فيه تهديدًا مباشرًا لوجودهم.
في المقابل، أبدى حميدتي دعمًا واضحًا للاتفاق، مدفوعًا بشكوكه المتزايدة تجاه نوايا البرهان وتحركات الإسلاميين ضده. وكان من الواضح أن الاتفاق، إذا ما تم تنفيذه، سيمثّل نهاية للنفوذ العسكري والإسلامي في السلطة.
وهنا تحرّك الإسلاميون لإفشال الاتفاق الإطاري، فشنّوا حملة منظمة ظهرت جليًا في افطارات رمضان الجماعية ، وحشدوا كوادرهم في الأجهزة النظامية، ورفعوا درجة الاستعداد لأي مواجهة محتملة. وقد وجدوا في البرهان حليفًا مضطربًا، يبحث عن طوق نجاة، فدفعوه نحو خيار الحرب.
وفي 15 أبريل 2023، اندلع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، في واحدة من أكثر الحروب تدميرًا في تاريخ السودان الحديث. حرب كانت مدفوعة بحسابات سياسية خاطئة، ظنّ فيها داعموها أنها ستكون قصيرة، وتحقق هدفين رئيسين وهما القضاء على الاتفاق الإطاري، وإنهاء وجود الدعم السريع، مما يمهد لعودة الإسلاميين إلى الحكم من بوابة القوات المسلحة.
لكن الحرب تحوّلت إلى مستنقع دموي، دمّرت فيه المدن، وشرّدت ملايين السودانيين داخل وخارج البلاد، وفتحت البلاد على احتمالات التفكك والانهيار. ومع طول أمد القتال، وجد البرهان نفسه غارقًا في أزمات داخلية متفاقمة، ومحاصرًا خارجيًا بفعل تحالفه المكشوف مع الإسلاميين، الذين باتوا يتحكمون في مفاصل السلطة ويشكّلون عبئًا عليه.
في مواجهة هذا الوضع، حاول البرهان عقد تحالفات جديدة داخلية وخارجية. داخليًا، استعان بمليشيات الإسلاميين، وبعض حركات دارفور المسلحة، التي دخلت معه في تحالف عسكري ضد قوات الدعم السريع. وخارجيًا، اتجه نحو شركاء استراتيجيين للإسلاميين مثل إيران وتركيا، ونجح في الحصول على بعض أشكال الدعم العسكري واللوجستي، إلا أن كل هذه التحالفات فشلت في حسم المعركة.
وأمام انسداد الأفق، لجأ البرهان إلى حيلة جديدة: إعلان تشكيل حكومة مدنية منزوعة الإرادة، لا تملك أدوات حقيقية للحكم، وإنما تعمل في إطار تحالف داخلي مهمته الوحيدة دعم استمرار الحرب، وضمان بقاء البرهان في السلطة.
لكن هذه الحكومة لن تحقّق له اختراقًا سياسيًا، ولن تُقنع الداخل ولا الخارج خاصة بعد التسريبات التي أكدت بقاء جبريل ابراهيم في وزارة المالية ومنح حركة مناوي وزارة المعادن ، وهذا بدوره سيزيد من غضب الشارع الذي لم يكن راضيًا عن تولي تلك الحركات لاهم وزارتين في الحكومة ، ومع كل محاولة للتقرّب من القوى المدنية أو التفاوض مع الدعم السريع، يجد البرهان نفسه محاصرًا بفيتو من الاسلاميين واضح، تُرفع فيه راية “التهديد الشخصي” له إن هو ابتعد عن أجندتهم. وهكذا، أصبح رهينة لتحالف صنعه بيديه، لكنه بات يهدد مصيره.
فهل يستمر البرهان في المراوغة والمناورة، ولعب الأدوار على تناقضات الحلفاء والخصوم كما فعل من قبل؟ أم أن كل الحيل قد استُنفدت، ولم يعد أمامه سوى مواجهة الحقيقة المرة .أن الاستمرار في هذه الحرب عبث، وأن لا مخرج إلا بتسوية شاملة تضع حدًا للمأساة السودانية؟
* كاتب ومحلل سياسي
[email protected]
المصدر: صحيفة التغيير