12:02 م
الإثنين 07 يوليه 2025
الإسماعيلية أميرة يوسف:
مع أول خيوط الشمس التي بدأت تتسلل إلى سوق السمك بالإسماعيلية، كان هاني صالح، التاجر الأربعيني المعروف، يقف في موقعه المعتاد، اعتاد أن يبدأ يومه مبكرًا، ينتظر قوارب الصيادين القادمة من مياه قناة السويس، علّ البحر يجود اليوم بما يكفي لإعالة أسرته.
الروائح المميزة للأسماك الطازجة، وصوت المزايدات، وصناديق الجندوفلي والبوري والجمبري التي تُفتح واحدة تلو الأخرى، كلها كانت مشاهد مألوفة لهاني، لكنه في هذا الصباح لمح شيئًا مختلفًا تمامًا، لفت نظره صندوق خشبي كبير بداخله كائن ضخم يتحرك ببطء، وحوله بعض الصيادين يتجادلون في السعر.
اقترب بخطوات ثابتة، فإذا به وجه سلحفاة بحرية ضخمة، تُقيد بحبل سميك، مُلقاة على ظهرها، تئن بصمت. لكن ما أوقفه حقًا لم يكن حجمها ولا نوعها، بل عينيها.. “شفت دمعة في عينيها.. والله دمعة حقيقية.. وكأنها بتبكي، وكأنها بتقولّي أنقذني”، هكذا وصف هاني اللحظة التي غيرت مجرى يومه، وربما مجرى حياة الكائن النادر.
كانت سلحفاة من نوع “الترسة البحرية”، متوسطة الحجم، إحدى السلاحف النادرة المهددة بالانقراض. لم يكن صيدها قانونيًا، لكنها وقعت في شباك أحد الصيادين الذي كان مصرًا على بيعها، مستندًا على طلبات المطاعم ومحلات التحف الذين يدفعون آلاف الجنيهات مقابل لحمها وصدفتها.
وذكر التاجر أن عددًا من المطاعم عرض عليه شراء السلحفاة بمبالغ وصلت إلى 7 آلاف جنيه، وذلك لأنه هناك معتقد بأن شرب دمائها يمنح القوة كما أن لحمها من أغلى أنواع اللحوم، ويحرص البعض على اقتناء صدفها للتحنيط أو لأغراض أخرى.
لكن هاني لم يحتمل المشهد اقترب وقال بحسم: “أنا هاشتريها.. مش علشان أبيعها، علشان أرجّعها للبحر، يمكن تكون شايلة بيض في بطنها، وربنا يكتب لها عمر جديد”.
دفع 4200 جنيه، كل ما جمعه خلال أيام طويلة من الكد في السوق، وحمل السلحفاة بين يديه كأنها طفل بين الحياة والموت. غسل صدفتها من القواقع والطين، وقدم لها وجبة خفيفة من الكابوريا والجمبري. كانت لا تزال مرهقة، لكن فيها رغبة واضحة في الحياة، وكأنها فهمت أنه أتى لينقذها لا ليؤذيها.
توجه هاني إلى أحد شواطئ الإسماعيلية المطلة على قناة السويس، وهناك، تحت ضوء الشمس وهدوء البحر، جلس قليلًا، ثم أطلقها في الماء، ووقف يراقبها تسبح، تبتعد شيئًا فشيئًا، بينما تدمع عيناه هو الآخر، في صمت.
وقال هاني: “أنا تاجر، بس الضمير أهم من الربح. مش كل حاجة تتباع، والسلحفاة دي روح ربنا خلقها، وإحنا واجبنا نحافظ على اللي فاضل من الطبيعة، مش ننهشه”.
ليست كل البطولات صاخبة، فبعضها يبدأ في سوق بسيط، بنظرة رحمة، ودمعة في عين سلحفاة، ورجل اختار أن يسمع النداء. هاني صالح لم يُنقذ كائنًا فقط، بل أعاد إلينا الأمل في أن الخير لا يزال ساكنًا في القلوب.
وتُعد هذه السلحفاة واحدة من بين 7 أنواع نادرة من السلاحف البحرية الموجودة في مصر، وتلعب دورًا بيئيًا مهمًا، خاصة في التغذية على قناديل البحر، ما يساعد في الحفاظ على التوازن الطبيعي في مياه البحار.
من جهتها، ناشدت وزارة البيئة المواطنين بالإبلاغ عن أي عمليات صيد أو اتجار غير مشروع بالكائنات البحرية المهددة، عبر الخط الساخن 19808 أو رقم واتساب 01222693333 المتاح طوال الأسبوع وعلى مدار الساعة.