لا يقود النجم الأمريكي براد بيت سيارة سباق فحسب في فيلمه الجديد F1: The Movie؛ بل يتصدر مشروعًا سينمائيًا طموحًا يسعى إلى اختراق عالم “الفورمولا واحد”، أحد أكثر العوالم انغلاقًا ودقة. الفيلم لا يكتفي بالإبهار الحركي ومشاهد السباق؛ بل يضع المتفرج في مواجهة سؤال مركزي: أين تنتهي حدود الترفيه؟ وأين تبدأ مسؤولية السرد السينمائي تجاه الحقيقة والأخلاق؟
من خلال مشاهد مشحونة بالدخان، وأزيز العجلات، ولقطات تقنية مبتكرة، يتبدّى الصراع الخفي الذي يشكّل عمق هذا العمل: بين الإخلاص للواقع ومتطلبات الدراما، بين بريق الصورة والتساؤل القيمي، وبين حكاية مصمَّمة للإمتاع وأخرى تُثير القلق والأسئلة.
حين تقود الكاميرا السيارة
يؤدي براد بيت شخصية “سوني هايز”، سائق أسطوري يعود من الاعتزال لإنقاذ فريق متعثر. وعلى الرغم من أن الخط الدرامي يبدو مألوفًا ـ عودة البطل من الظل، مواجهة الشك، ثم لحظة الانتصار الرمزي ـ فإن الفيلم ينجح في إضفاء طابع متفرّد من خلال البيئة التي تدور فيها الأحداث، أي عالم “الفورمولا واحد” بكل تعقيداته التقنية، وتفاصيله الهندسية، وانغلاقه النخبوي.
اعتمد المخرج جوزيف كوسينسكي، المعروف بإخراجه Top Gun: Maverick، على مجموعة غير مسبوقة من تقنيات التصوير، شملت كاميرات دقيقة داخل الخوذ، وأخرى مثبتة على هياكل السيارات، إلى جانب معدات طوّرتها شركة آبل خصيصًا للفيلم. النتيجة كانت تجربة بصرية قريبة جدًا من السباقات الحقيقية، لا تحاكيها فحسب، بل تُحاكي شعور السائق نفسه، لتنقل المشاهد إلى قلب الحلبة.
هذه الاختيارات لم تكن فقط استعراضية؛ بل ساعدت على خلق شعور غامر يتجاوز المتعة البصرية نحو الإحساس الحسي بالسرعة والخطر والانضغاط، وهي أبعاد نادرًا ما تُحقق بهذا المستوى من الإتقان.
براد بيت في مواجهة الزمن
في سن الـ61، لم يكتف براد بيت بالأداء التمثيلي؛ بل خاض تحديًا فعليًا في قيادة سيارات F2 معدّلة، مقتربًا في بعض المشاهد من سرعة 300 كلم/ساعة. لم تكن هذه التفاصيل هامشية، بل عززت من صدقية العمل، ومنحت الشخصية وزنًا جسديًا وحضوريًا يصعب تمثيله على نحو اصطناعي.
اللافت هو أن هذه الجرأة قوبلت بإعجاب واسع داخل الأوساط الرياضية؛ فقد اعتبر السائق كارلوس ساينس أن الفيلم “مذهل” على المستوى البصري، ووصفه بيار غاسلي بأنه “غوص حقيقي في عالم الفورمولا واحد”. أما ماكس فيرستابن، بطل العالم، ففضل الغياب عن العرض الخاص، مفضلاً قضاء الوقت مع أسرته. وعلى الرغم من أن موقفه لا يحمل تصريحًا ناقدًا صريحًا، فإنه عكس، في نظر البعض، تحفظًا تجاه النزعة الترويجية المتزايدة التي تحيط برياضة تتطلب صرامة أكثر من بهرجة.
عندما تتقاطع الدراما مع الفضائح
المشهد الأكثر إثارة للجدل في الفيلم لا يتعلق بالتقنيات أو السرعة، بل بلحظة يفتعل فيها “هايز” حادثًا على الحلبة بهدف استدعاء سيارة الأمان؛ ما يمنح فريقه أفضلية تكتيكية. هذه الحبكة تعيد إلى الذاكرة فضيحة “كراش غيت” في سباق سنغافورة 2008، حين اصطدم سائق فريق رينو عمدًا بالحائط لأهداف مماثلة.
بيت نفسه أقرّ في لقاءات إعلامية أن الفيلم استلهم وقائع حقيقية من تاريخ الفورمولا، دون أن يكررها حرفيًا. أما المخرج كوسينسكي، فأكد أن الهدف لم يكن الترويج للغش؛ بل “استكشاف الحدود دون تجاوز الخط الأحمر”، بموافقة استشارية من لويس هاميلتون، الذي شارك في الإنتاج.
غير أن تقديم المشهد في قالب بطولي، من دون نقد ضمني واضح، يثير تساؤلات حول ما إذا كان الفيلم يجمّل سلوكيات غير رياضية بحجّة الدراما، خاصة أن الجمهور العريض قد لا يمتلك الخلفية التي تمكّنه من التمييز بين الحيلة الذكية والمخالفة الأخلاقية.
F1 The Movie : ليس فيلمًا عن الفورمولا واحد فحسب؛ بل عن التقاء عالمين شديدي الإيقاع: السينما وسباقات السرعة. يقدم تجربة بصرية مبهرة، وأداءً جسديًا متقنًا من نجم كبير؛ لكنه يثير أيضًا جدلاً مشروعًا حول الحدود التي يمكن للدراما أن تطرقها دون أن تمسّ جوهر النزاهة الرياضية.
يبقى الفيلم مفتوحًا على تأويلات متعددة: هل هو احتفاء بالمخاطرة والإرادة؟ أم تبرير ضمني لتكتيكات رمادية؟ وهل يجوز للفن أن يروّج “التلاعب الذكي” إذا جاء مغلفًا بالإثارة؟ الإجابة لا يملكها صانع الفيلم ولا النقاد؛ بل يحملها كل مشاهد على مقود تأويله الخاص.
المصدر: هسبريس