في لحظة تنوء بثقل الاشارات و المعاني و تحمل في أعماقها صورا قوية من التثمين السيادي للأداء الأمني المغربي، تتكشف أهمية الزيارة التي قام بها المدير العام للشرطة الفرنسية لوي لوجيي إلى المملكة المغربية، و لقائه بالسيد عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني، بوصفها فعلا مؤسسا لا يوجز في نطاقه البروتوكولي أو ظرفيته الظاهرة، بل يستبطن تحركات محسوبة في نطاق استراتيجي عميق، يعبر عن تناغم إرادي وتجاذب في مقاربة التحديات الأمنية الكونية، ويحيل على إعادة تشكيل معمار الثقة المتبادلة بين المؤسستين الأمنية المغربية والفرنسية على نحو يعيد ترتيب أولويات التعاون في ضوء الرهانات الأمنية المتجددة.
فالتوقيع على مخطط عمل مشترك بين مصالح الأمن المغربية ونظيرتها الفرنسية يدل على مرحلة جديدة من التمأسس الرسمي لتحالف ثبت وجوده عبر حقب متلاحقة، غير أنه اليوم دشن منعطفا جديدا يرمي إلى تحويل التعاون من مجرد تنسيق ظرفي إلى شراكة هيكلية عابرة للملفات الظرفية.
فقد أصبح التعاون الأمني بين الرباط وباريس يميل، في ضوء هذا الاتفاق، إلى نمط جديد من التكامل الأمني الاستراتيجي، حيث لم يعد الأمر منحصرا في تبادل المعطيات أو تسليم المطلوبين،
بل من المحتمل أن ينتقل إلى مرحلة اكثر تقدما، تتجلى في التبني المشترك لوسائل التدخل والمواجهة، من خلال إمكانية إنشاء مجموعات عمل دائمة، وتبادل الخبرات العملياتية، والانخراط في بروتوكولات تدريب وتكوين أمنيين من الجانبين على أسس موحدة ومتكاملة.
وفي ضوء ذلك نكون امام شكل تمثيلي للإندماج الأمني الناعم، باعتباره مظهرا من مظاهر الدبلوماسية الأمنية، حيث تتداخل عناصر الثقة المتبادلة، والتنسيق المؤسساتي، والتقارب القيمي بين الأجهزة الأمنية، و يترتب على ذلك تبلور نسيج ديناميكي يرتكز على الترابط الشبكي والتواصل المستدام الذي يتم فيه تجاوز الطابع الموسمي أو الظرفي. كما أن هذا النوع من الاندماج يعكس إرادة سياسية لدى الطرفين في تحويل الأمن من مجال سيادي مغلق إلى مجال للتفاعل الانفتاحي، وتفكيك مقولة الأمن كعقيدة دفاعية صلبة إلى الأمن كمنظومة للعيش المشترك العابر للحدود، وتوحيد الرؤية تجاه التهديدات المستجدة. ولا مراء في أن هذا المخطط العملي ينطوي على بعد مركزي يعتبر حجر الزاوية في هندسة التوجهات الاستراتيجية وإعادة ترسيم ملامح التنسيق المؤسساتي وفق منطق يتسم بمزيد من التكامل والفعالية.
وما يمنحه قيمة مضاعفة ويرسخ أثره الوظيفي، هو كونه منبثقا عن وعي استباقي نافذ بإكراهات السياق الدولي المعاصر وتشابكاته المتسارعة،التي تهدد الاستقرار الإقليمي،على رأسها الإرهاب العابر للحدود، والجريمة المنظمة، والهجرة غير النظامية، وتحديات الأمن السيبراني. فالمغرب، بما راكمه من خبرة استخباراتية ميدانية وعملياتية، بات فاعلا لا غنى عنه ضمن الهندسة الأمنية الأورومتوسطية، بل إنه أضحى، وفق الاعتراف الفرنسي ذاته، دعامة مركزية في صيانة الأمن الداخلي الأوروبي، من خلال تعقب الفارين، وتفكيك الشبكات الإرهابية، وضمان الأمن الوقائي الاستباقي.
علاوة على ذلك نقف عند التوشيح الرفيع الذي حظي به السيد عبد اللطيف الحموشي، و المتجلي في وسام جوقة الشرف من درجة ضابط، هذه اللحظة الفارقة في مجرى التطور، تحمل في طياتها إشارات ضمنية عميقة، إذ أن الأمر هنا لا يتعلق بتكريم شخصي فقط، وإنما هو إشهاد سياسي وأمني على ريادة المغرب في المنظومة الأمنية الدولية، على إعتبار أن الأوسمة الكبرى لاتمنح اعتباطا أو مجاملة، بل تستخدم كآلية ومصدر هام لإعادة إنتاج الرأسمال المعنوي للدول عبر شخصياتها المفصلية، و المدير العام للأمن الوطني المغربي هنا ليس مجرد موظف دولة، بل هو تجسيد لمشروع أمني عقلاني فعال استطاع أن يثبت حضوره في كبريات المعارك الأمنية.
نجد هناك أيضا إعلان الجانب الفرنسي، في شخص مديره العام للشرطة، عن استعداد باريس لمساعدة المغرب في تأمين الفعاليات الرياضية الكبرى، وفي مقدمتها تنظيم كأس العالم 2030، الذي ينم عن تحول واضح في تمثلات القوة الأمنية المغربية من طرف الأوروبيين. فبعدما كان المغرب ينظر إليه باعتباره شريكا جنوبيا في ضبط الهجرة ومكافحة التهريب، بات يستدعى اليوم بوصفه وعاء للخبرة الأمنية القابلة لتوريد الدولي والتوظيف في تأمين التظاهرات والمحطات الكبرى، بما فيها تلك التي تقام في قلب أوروبا.
كما لا يمكن بأي حال فهم هذا التطور خارج السياق الجيوسياسي الأوسع الذي يشهده الحوض المتوسطي، والذي يعرف تقلبات غير مسبوقة في التوازنات الأمنية، بفعل تصاعد اليمين المتطرف، وتراجع فعالية بعض الأجهزة الأوروبية في مواجهة الأخطار الأمنية المركبة. إذ تبرز هنا الحاجة إلى العمق الأمني الإفريقي الذي يمثله المغرب، بوصفه دولة تمتلك قدرة مزدوجة، وذلك من حيث الإمكانات الوجيستية الداخلية، والامتدادات المعلوماتية في الفضاءات الإفريقية جنوب الصحراء من جهة أخرى، ما يضعها في موقع استراتيجي متقدم داخل المعادلة الأمنية الأورومتوسطية.
وإذا كانت الزيارة التي قام بها مدير الأمن الفرنسي، مصحوبا بسفير بلاده ووفد أمني رفيع المستوى، قد أفرزت دينامية مؤسساتية جديدة في التعاون، فإنها تعكس كذلك طبيعة الدور المتغير للمغرب كفاعل أمني قوي، يفرض نفسه لا فقط بفضل موقعه الجغرافي كحارس للبوابة الجنوبية لأوروبا، بل بفضل تراكم تجربته الاستخباراتية وممارسته الناجحة لمقاربة أمنية مزدوجة، تمزج بين النجاعة التقنية والاستباق الوقائي، وبين البعد الحقوقي والانفتاح على مختلف الشركاء في المنظومة الأمنية.
إن هذا المحطة الحوارية التي ترتقي الى مستوى المفصل الديبلوماسي، لم تكن مجرد لقاء رسمي وبرتوكول عابر، بل هو تمظهر لإرادة سياسية مزدوجة، بين فرنسا التي تبحث عن سند أمني خارجي برصيد مهني أكثر كفاءة، وسياسة أمنية مغربية تسعى نحو ترسيخ صورة مجال ترابي تدار فيه المخاطر وفق هندسة احترازية فعالة، وقادر على تحمل مسؤولية التنظيم وتأمين التظاهرات الدولية، وفي الآن ذاته، حريصة على الانخراط في الشراكات الدولية بمنطق الندية، لا التبعية.
وتماهيا مع مجريات هذا السياق التحويلي، يمكن اعتبار التوقيع على هذا المخطط بمثابة نقلة مفاهيمية في تاريخ العلاقات المغربية الفرنسية، حيث يغدو الأمن ليس فقط مسألة سيادية داخلية، بل موضوع شراكة استراتيجية تؤطره التزامات مؤسساتية واستباقية، تفتح الباب أمام نموذج متقدم من الدبلوماسية الأمنية التي تراهن على تبادل المعلومة، وتعزيز الجاهزية، وتحييد المخاطر قبل وقوعها.
وفي ظل ما يعرفه العالم من تصاعد التهديدات غير التقليدية، وتنامي شبكات الجريمة العابر للحدود، وتحول الأمن إلى مورد استراتيجي عالمي، فإن المغرب، من خلال مثل هذه الخطوات، يكرس مكانته بوصفه دولة ذات سيادة أمنية و معرفية، لا تكتفي بتأمين نفسها فقط، بل تسهم أيضا في تأمين محيطها الإقليمي والدولي.
المصدر: العمق المغربي